وجهات نظر

هل نحتاج لإحياء "مبادئ باندونغ"؟

يَتَوَجَّسُ العالمُ من العودةِ الثَّانية لدونالد ترامب رئيسًا للولايات المتَّحدة الأميركيَّة، فبعْدَ أن أعلن ترامب خِلالَ حَملتِه الانتخابيَّة أنَّه سوف يُنهي الحروبَ في العالم، إذ بهِ يفتحُ البابَ على مِصْرَاعَيْه أمَام حُروبٍ بِلا عَدَدٍ في مُختلفِ أنحاء العَالم.

هل نحتاج لإحياء

هَدَّدَ ترامب بـ"الجَحيم" في الشَّرق الأوسَط لوْ لمْ يَتِمّْ الإفرَاج عن الرَّهائِن الأميركيّين الذين تحتجزُهم حركة "حماس" منذ "طوفان الأقصى"، واتّصالًا بالشَّرق الأوسَط فإنَّه بعد أن كانَ قد أعلنَ أنَّه لا يريدُ الإضْرَارَ بإيران لكن لا يمكنُها أنْ تحوزَ السِّلاحَ النَّوَوِي ممّا يَعْني إمْكانيَّة التَّفاوُضِ معَها، إذ بمُعاوِنيه الجُدُد يَطرَحونَ كلّ البدائل على الطّاولَة بما في ذلك تَنْفيذُ عملٍ عسكريّ ضدَّ إيران.

ومِن دونِ سابِقِ إنذار، هَدَّدَ ترامب بضمِّ كندا وتَحويلِها إلى "الولايةِ الأميركية الرَّقم 51"، وعندَمَا احْتَجَّ رئيسُ الوُزَرَاءِ الكَنَدِي المُسْتقِيل جاستن ترودو وشَبَّهَ انْضِمامَ كندا لأميركا بِكُرَةِ الثّلجِ وسْط النَّار، ردّ عليْه النَّجْمُ الأشْهَر في عالَم الذَّكاءِ الاصطِناعي وأحَد الوزراء الجُدُد الّذين اختارَهم ترامب قائلًا له إنَّه لم يَعُدْ رئيسًا لوزراء كندا أصْلًا حتَّى يَحُقّ له مناقشةَ هذا الموضوع.

الأخطار التي يُواجِهُها العالم اليوم تَزيد عن خطر الاستقطاب الإيديولوجي الحادّ في الخَمْسينيَّات والستّينيَّات

وهناك تهديداتٌ أخْرى لترامب باحتلالِ "غرينلاند" والسَّيطرةِ على "قناة بنما". ومع أوروبّا، تَدَخَّلَ إيلون ماسك بِشَكْلٍ فَجٍّ في الشُّؤون الدَّاخليَّة الأوروبيَّة، فدعا الألمانَ لانتخابِ حِزْبِ "البديل من أجلِ ألمانيا" اليَميني المُتَطَرِّف، وأجرى محادثاتٍ لإقالة كير ستارمر زعيمِ حزب العُمَّال الذي لم يَمْضِ له بعد في مَنْصِبِه أكثَر من بِضْعة أشهر.

وفي المِلَفِّ الأوكراني، لم تتَّضِح بعد معالمُ الصَّفْقَةِ بين روسيا والولايات المتَّحدة حول التَّخلِّي عن سوريا مقابِل الحصولِ على مَكَاسِبَ روسيَّةٍ في أوكرانيا، لكن هناك أسئلة كثيرة حول حُدُود قُدْرَةِ ترامب على استيعاب كلّ ما تُريدُه روسيا في أوكرانيا، وكذلك حول الانعِكاساتِ المُحْتملة للنَّتائج النّهائيَّة لهذه الصَّفْقَة على تَماسُك حِلْفِ شَمَالِ الأطلسّي وعلى موقفِ أوروبّا الغربيَّة التي اسْتَثْمَرت في أوكرانيا استثمَارًا ماديًّا وعسكريًّا ضخمًا.

وفي ما يخصُّ الصِّين التي يضعُها ترامب على رأسِ القوى المُعادِية، فكلّ السيناريوات مَفْتوحَة أمام الحربِ التِّجارِيَّةِ بين الطَّرَفَيْن، وثمَّةَ مِحْوَرٌ روسي - صيني - كوري شَمالي يستعدُّ لمُواجهةِ الأسْوَأ. هذا كلُّه بالإضافةِ إلى القانونِ الذي أقرَّه الكونغرس قبْل بِضْعَةِ أيَّام بفرضِ عُقوباتٍ على "المَحْكَمَةِ الجِنَائِيَّةِ الدَّوْلِيَّة" لتَجَاسُرِهَا على إصدارِ مُذَكَّرَتَّيْ توْقيف لكلٍّ مِن رئيسِ الوُزراء الإسْرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو ووزيرِ دفاعِه السَّابِق يوآف غالانت، ومعلومٌ أن الولاياتِ المُتّحِدَة انسَحَبَت في الولايةِ الأولى لترامب من المَحْكَمَةِ وشنَّت عليْها ولا تزال حَمْلَةَ تشْويهٍ وتَحْريضٍ تَستَخدِمُ فيها آلَتهَا الدِّعَائِيَّة الضَّخْمَة، ومعنى ذلكَ تقويض أرْكَانِ نظامِ العَدَالَةِ الدَّوْليَّة الضَّعيف أصلًا وتَكْريس مبدأ وجودِ دُوَلٍ فوقَ القَانونِ الدّولي وفي مأْمنٍ من العِقَاب.

لفتْح النِّقاش حول سُبُل تجديد دماء حركة عدم الانحياز وإحياء مبادئها وتطوير إطارها حمايةً للعالم من مصير مجهول

في مواجهةِ هذا العَالَمِ المُخيف الذي ينتظرُنا مع ترامب في ولايتِه الثَّانيَة، هل يكونُ مِن المُجدِي الدَّعْوَة لإعادةِ إحياءِ "مبادِئ باندونغ"؟ وبأيّ كيفيَّةٍ بعد أربعةٍ وستِّين عامًا من إقرارِ تِلك المَبادِئ؟.

في الإجابةِ على هذيْن السُّؤالَيْن نحتاجُ للاتِّفاقِ حول مجموعةٍ من النِّقاطِ الأساسيَّة:

النُّقطة الأولى هي أنَّ الخَطَر، بل الأخطار التي يُواجِهُهَا العالمُ اليوم لا تقلُّ أبدًا، بل تَزيد عن خَطَرِ الاستِقطاب الإيديولوجي الحادّ في عقدَيْ الخَمْسينيَّات والستّينيَّات. ويكفي هنا أن نُشيرَ إلى التَّطَوُّرِ المُذْهِلِ في تِكنولوجيا الحُروبِ بسببِ تطبيقاتِ الذَّكاء الاصطِناعي التي وَضَعَت العالمَ - أكثرَ مِن مرَّة - على شفا حَربٍ كَوْنيَّة لا تُبْقِي ولا تَذَر.

وبالإضافةِ إلى هذا السَّبَبِ المَوْضوعي، هناكَ سببٌ آخَر يَتَعلّقُ بغِيابِ القِيَادَاتِ الدّوليّة الكبيرة الّتي كانت تَحْتَكِمُ في قراراتِها الخَارِجِيَّةِ إلى معايير العَقلانِيَّة والرَّشَادة. وبالتَّالي فإنَّ الحاجَة إلى استِحضارِ أجواء "مؤتمَر باندونغ" تبدو مُبَرَّرة.

يقودُنا ذلك إلى النُّقطة الثَّانية المُتعلِّقة بمَبادِئ "مؤتمر باندونغ" والتي يمكنُ تَلْخِيصُها في: الاستِقلالِ السِّياسِي، وعدمِ التَّدخل في الشُّؤونِ الدَّاخليَّة للدُّوَل، وحفْظِ السَّلام، مع مراعاةِ أنَّ تطوُّرَ العَلاقَاتِ الدَّوليَّة أدّى لإضافة مَبادِئ أخرى.

النُّقطة الثًّالثة هي أنَّ حركةَ عدَم الانحيَاز لا تحجر على التَّوجُّهاتِ الإيديولوجيَّةِ للدُّوَل طالَما كانت لها مواقفَ قريبة مِن الحركة. وحول ذلك، أشار السّفير عزَّت سعد، نقلًا عن الدّكتور بطرس بطرس غالي، إلى عُضْويَّة كوبا في الحركة على الرَّغم مِن ارتباطِها بالكُتلةِ الشَّرْقِيَّة.

الحياد الإيجابي وثيقُ الصِّلة بعدم الانحياز ويتقاطع جزئيًّا مع مفهوم النَّأي بالنَّفْس

النُّقطة الرّابعةُ هي أنّ الدّول باتت تَحْرِصُ على تنويعِ عَلاقَاتِها الخَارجيَّة وعلى تَعَدُّدِيَةِ مصادر تسليحِها وعلى التَّوَازُنِ بين عُضْوِيتِها في التَّجمُّعاتِ الدَّوليَّة المُختلِفة، وتتفاوض على جزءٍ من مَصالحِها وتَتَمَسَّك بجُزءٍ آخر. هذا إذَن واقعٌ معمولٌ به فعلًا ويصّب في خانةِ عدمِ الانحِياز.

النُّقطة الخامسة أنَّ هذا كلّه يُبَرِّرُ فتْحَ النِّقاش واسعًا حول سُبُلِ تَجديدِ دِماءِ حركةِ عدم الانحِياز وإحياء مبادئِها وتطوير إطارها حمايةً للعالم من مصيرٍ مجهول.

الأفكارُ السَّابقة أثارَها حديثُ الرَّئيس الجَديد جوزيف عون عن الحياد الإيجابي للبنان في هذهِ المرحلةِ من تاريخِه. والحيادُ الإيجابي وثيقُ الصِّلةِ بعدمِ الانحياز، ويتقاطعُ جزئيًّا مع مفهومِ النَّأي بالنَّفْس، ويُجَسِّدُ حاجةَ لبنان إلى إقامةِ علاقاتِه الخارجيَّة على أسُسٍ جَديدة، وأظُنُّ أنَّ لبنانَ ليس وَحدَه في ذلك.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن