فرنسا التي تتقلص ذراعها في إفريقيا كل يوم شبرا وتريد أن تبقى أرجلها هنا بقدر ذراع، ما فتئت تنفخ في الكير كلما خبت نار الحرب في النيجر، غير مهتمة بمساعي التهدئة وتفعيل الدور الدبوماسي للاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة والولايات المتحدة وروسيا والجزائر وما لا يقل عن 6 دول من أصل 15 في لجنة الأمن والسلم في الاتحاد الإفريقي، دافعة بذلك نحو إشعال الوضع المضطرم أصلا.
الجزائر، التي لم تدخر يوما ولا حتى ساعة، بحسب رئيس الدبلوماسية الجزائرية، من أجل وقف مد تهديد إكواس بالتدخل العسكري لإعادة الشرعية الدستورية في البلاد، ما زالت تفعّل قنواتها كلها من أجل تغليب لغة الدبلوماسية بعيدا عن لغة التهديد والوعيد، ولغة الحصار والمقاطعة الاقتصادية والعقوبات، التي باتت اليوم معروفة أنها "أداة عسكرية استعمارية جديدة قوامها العتاد والسلاح الاقتصادي"، سلاح التفقير والتجويع والتجهيل، وهو أخطر من سلاح الموت والتنكيل، لكون الأول ظرفي التأثير والثاني طويل الأمد يمتد لأجيال.
الولايات المتحدة، التي تدخلت مؤخرا، بعد زيارة وزير الخارجية للولايات المتحدة ولقاء عطاف مع بلينكن من أجل تفعيل الدور الدبولوماسي لحل الأزمة النيجرية والعودة بالبلد إلى الشرعية الدستورية، سرعان ما انتقلت إلى فكرة تعيين سفيرة لها في نيامي، وهو مؤشر قوي على أن الولايات المتحدة مقتنعة تماما بمقترح الجزائر المتمثل في الحوار مع القيادة العسكرية الحالية بغية إيجاد حل للأزمة وتفادي تصعيد الوضع الذي قد يفضي إلى تدخل عسكري من دول الإكواس، أو بعضها، ما سيؤدي إلى انقسام في الدول الـ15 ثم إلى انقسام في دول الاتحاد الإفريقي، علاوة عن إشعال شرارة حرب قد تمتد لسنوات ويصل مداها إلى أبعد من حدود دولة النيجر. المقترح الجزائري الأمريكي، الذي لم يتبلور بعد، على الأقل رسميا، في شكل خطة أو خارطة طريق، يتمثل في نسخ التجربة المالية وبعض الدول الأخرى، كتشاد وبوركينا فاسو وغيرها من الدول التي عرفت حالات انقلاب مماثلة ضد الشرعية الدستورية، المتمثلة في إطلاق سراح القيادة السابقة، ورسم خارطة طريق لمرحلة انتقالية قصيرة تفضي إلى العودة إلى المسار الديمقراطي وإلى انتخابات شعبية تفضي إلى حكومة مدنية.
يبدو أن القيادة العسكرية الانقلابية في النيجر، حاولت أن تستبق الأحداث وتضع المجتمع الإفريقي والعالمي أمام الأمر الواقع، عبر تعيين حكومة جديدة بقيادة جديدة، بدأت على الفور في الاتصالات الخارجية انطلاقا من تشاد، الدولة المجاورة التي عرفت نفس التجربة وقبلت فرنسا والنيجر معا سابقا بقيادة ماكرون ومحمد بازوم مجتمعين، بمبدإ عدم فرض عقوبات على الانقلابيين في تشاد وتفضيل الحل الدبلوماسي والذهاب نحو مرحلة انتقالية قصيرة تفضي إلى العودة إلى الشرعية الدستورية.
غير أن فرنسا تدخلت ودخلت على الخط بين الجزائر والولايات المتحدة، وعملت على إفشال المشروع من أجل الضغط أكثر والدفع نحو العودة إلى لغة التهديد بالتدخل العسكري، بعدما بدأت أصوات كثيرة تتعالى بما فيها دول إفريقية في الشمال والجنوب، رفقة روسيا والولايات المتحدة، بضرورة رفض عسكرة الحل والذهاب نحو مرحلة انتقالية. هذا المخرج لا يلائم فرنسا، التي تريد حتما عودة الرئيس محمد بازوم بلا قيد ولا شرط إلى الحكم من جديد ولا قبول بأي حل وسط، لكونها ترى مصالحها مهددة مع خطة “المرحلة الانتقالية”.
هكذا، فرنسا تكيل بمكيالين: مكيال الشرعية الدستورية عندما يكون ذلك في مصالحها، وبالمرحلة الانتقالية، عندما يكون ذلك من مصلحتها أيضا.. وفقط، ولنا في التجربة الجزائرية والحراك خير مثال لأسوأ ميزان.
("الشروق" الجزائرية)