أَمْكَنَ ذلك بفضلِ ما حَقَّقَتْهُ فيزياء الكَمّ وتطوّر التّكنولوجيا من نجاحاتٍ وقفزات، من طريقِ إعادة التّصوّرات الافتراضيّة والعوالم المُتَخَيَّلَة إلى مركزِ اهتمامِ العلم وانشغالاته البحثيّة، اعتمادًا على خوارزميّاتٍ رياضيّة وإلِكترونَات ومَوْجات ورموز وشيفرات نجحَت في تمثيلِ الكتابة والخطوط والرّسوم والأشكال والصّور والأصوات من خلالِ لوغاريتماتٍ وتعقيداتٍ حسابيّة، جَعَلَت الشّباب، وعلى خلاف الآلةِ الميكانيكيّة، يَتَنَقَّلوُنَ من الواقِعي إلى الرَّقمي أو ربّما إلى عوالمَ يتداخل فيها الرّقمي بالواقِعي، بل إلى عوالمَ يطغى فيها الرّقمي على حياتهم ووعْيهم بالعالم، بعد أن صار أكثرَ حضورًا وصلابةً من الواقع الذي يتبخَّر ويُنسى ولا يحضُر إلّا كاستفاقةٍ من حُلمٍ طويل.
تغيّرات ثقافيّة وقِيَمِيَّة وعقديّة آتية لا محالة على مختلف مكوّنات المجتمعات العربيّة
فقد أضحى الأمن الوُجودي (الشّعور بالاطمئنان والاستقرار) داخل العوالِم الرّقمية بالنّسبة لهؤلاء الشّباب، مُعقَّدا ومتعدِّد الأبعاد، ارتباطًا بمنظومة القِيَمِ والاتّجاهات، التي لم تَعُدْ مؤسَّسةً على الإكراه أو الضّبط الاجتماعي كما سبَق وصرّح "إميل دوركايم"، بل على العكسِ من ذلك أصبح الشّباب داخل العوَالم الرّقمية في حالةِ تحررٍ قِيَمِي وأخلاقي خَوَّلَت لهم اختيار ما يُناسب قناعاتهم ومشاعِرهم واستعداداتهم، من دون أن يعني ذلك قَطْعَ الصّلة مع حياتهم المَوْقِعِيَّة.
بمعنى آخر، عندما لم يجد شباب اليوم ما يُشْبِعُ حاجاتهم النّفسية والشّعورية لدى الأسْرة والمدرسة والمسجد ووسائل الإعلام...، انتقلوا بحثًا عنها داخل فضاء الإنترنت وعوالمها الرّقمية، الأمرُ الذي خَلَقَ قِيَمًا واتّجاهاتٍ مغايِرة، توحي بعودةٍ قويةٍ للشّباب داخل الفضَاء العُمومي ومناقشة الحياة الجَماعيّة المشتركة بما تحمله من قيمٍ وقناعاتٍ واتجاهات: العلاقة بين الجنسَيْن، الحرّيات، المساواة، التّعبير عن الذّات، المُواطَنة، العدالة، التّضامن...، لكنّ هذه العودة القويّة ليست بالشَّكل التّقليدي كما تمََّ ترسيخه في الوعي الجَمْعِي للشّباب، وإنّما في شكلٍ جديدٍ يتميّز بالكثيرِ من النّقدِ والحرّية في تبنّي القيم والاتّجاهات والإعلان عنها، بل وحتّى الدّفاع عن المضادّ مِنها في حال شَمَلَت المرْغوب عنه اجتماعيًا.
المُتَأَمِّلُ في سَيْرورَة الحياة الاجتماعيّة الرّقمية للشّباب العربي راهنًا، يكتشفُ أنّ تغيّرات ثقافيّة وقِيَمِيَّة وعقديّة آتية لا محالة على مختلفِ مكوّنات المجتمعاتِ العربيّة أفرادًا ومؤسَّسات، من دون أن يعني ذلك قطعَ الصّلة مع القيم التّقليدية، والتي ما زالت تجابِه للحفاظِ على وجودها ضمن هذه المُتغيّرات، يتجلّى ذلك بوجهٍ خاص في ما يُبديه أغلبُ الشّباب من احترامٍ للعائلةِ والوالدَيْن، وفي النّظر للأسْرة باعتبارها مصْدرًا للقيم، كما يتمثّل في احترامِهم للمعايير الدّينية، خصوصًا في جوانبِها الإنسانيّة والاجتماعيّة، إضافةً إلى بحثِهم المستمرّ عن تبنّي قيم حداثيّة تتوسّع اضطرادًا مع زيادة مَنسوب التّعليم والتحضّر والانفتاح المُتزايد على العوالِم الرّقمية الأجنبيّة (الأوروبيّة والآسيويّة بالخصوص).
الظّروف السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة لأغلب البلدان العربيّة زادت القيود المفروضة على قدرات وطموحات الشّباب
وعلى ذلك، يبدو أنّ الانتقالَ نحو العوالِم الرّقمية وتزايد دورِها في هندسة المعيش ومنح شباب الإنترنت مزيدًا من الحرّية والاستقلاليّة عن سلطةِ المجتمع ومؤسّساته الرّاعية، أدّى إلى تناقصِ أثرِ المَعايير والقيم والمعتقدات والمبادِئ المحليّة، المرتبطَة بالدّولة القوميّة الحديثة وتنظيماتِها المُؤَسَّسِيَّة. في المقابل، فإنّ الظّروف السِياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة لأغلب البلدان العربيّة راهنًا، زادت من القيودِ المفروضة على قدرات وطموحات الشّباب، كما زادت من القيودِ الماديّة على خياراتِهم الحياتيّة وقلّصت من مستوى الأمن الوُجودي لديهم مقرونًا بزيادة التوتّرات والاضطرابات والأزمات في بلدانهم، في مقابل انفتاحهم ووصولهم اللامحدود إلى معلوماتٍ ونماذجَ حياتيّة شبابيّة لطبقاتٍ اجتماعيّة ومن مناطق جغرافيّة أخرى أكثر رفاهيةً ويُسْرًا وجاذبيّة.
يبقى الرّهان العربي، بل والحُلم العربي، مُنَاطًا بهؤلاء الشّباب، باعتبارهم الكتلة الدّيموغرافيّة الحرِجة في كل بلادٍ عربية، لكنها كتلة لم تشارك في النِّضال الوطني، ولم تعد تجذبها ولا تقنعها الإيديولوجيّة الوطنية، أي الشّرعيّة المؤسَّسة على التّاريخ الوطني، ومنظومة القيم التي يحملونها لم تعد تنتمي إلى ما قبلها، كما لا تتطلّع إلى الغد الذي قد لا يأتي بعدَها، بل أهمّ ما فيها أنّها آنِيَّة وواقعيّة، بل وتنتمي لشكلٍ جديدٍ من السِّجلات القِيَمِيَة المتشابكة، وهي ذات بنية هجينة وانعكاسيّة، تميلُ مورفولوجيّتها للجَمْعِ بيْن الموْقعي والرّقمي، المحلّي والعالمي، التّقليدي والعصري، الماضي والمستقبل، التحرّر والالتزام، الأخروي والدّنيوي، التّضامني والتّغالُبي، الاتّفاقي والخلافي، ولأمرٍ كهذا أصبح من المُمكن الحديث اليوم عن قيمٍ شبابيّة بنّاءة وأخرى هدّامة، ماضية في نسْج شبكاتِها المتدفّقة وسجلاتِها السائِلة في إطارٍ سَدِيمِي غير قابلٍ للتّحديد أو التشكُّل النّهائي.
(خاص "عروبة 22")