الاستمرارُ في نهجِ التفاوض عند الأوّل، والتغيّر في نهجِه عند الثاني هو ما جعل الاتفاق ممكنا وقد يؤدّي إلى وقفٍ تامٍّ للحرب.
1 - السّنوار:
على عكْس ما توقعَت أطرافٌ عديدة من أنّ استشهادَ يحيى السّنوار سيخْلق فراغًا في القوّة سيملأه قادةُ الخارج الأكثر تعرّضًا للضّغوط العربية والتّركية والغربية، وعلى الرَّغم ممّا بدا أنَّ تشكيلَ قيادةٍ جَماعيةٍ للحركة بَعْدَه سيقود لهذا الطريق، فإنّ كلّ المؤشِّرات أكدت أنّ محمد السّنوار - الذي كان مكلّفًا حتّى في حياة أخيه بملفِّ الأسرى، ورقة المقاومة الرّابحة - قاومَ أيّ تراجعٍ في نفوذِ غزَّة وجناحِها المسلّح في صنعِ قرارِ "حماس" وبالتّالي منعَ أيّ تفكيكٍ لاستراتيجيّته في التّفاوض.
على المستوى الميداني، ارتكزت هذه الاستراتيجيّة إلى قاعدتَيْن؛ الأولى هي تكبيدُ العدوّ خسائرَ موجعةً في جنودِه يوميَّا، والثانية هي أنه لن يتمَّ تسليم أسيرٍ لدى المقاومة إلّا بصفقةِ تبادلٍ بأسْرى فلسطينيين، ووقفِ إطلاق النّار، وانسحابٍ من غزة، ودخولِ المساعدات، وعمليةِ إعمارٍ لاحقة.
واصَل السّنوار الصَّغير فرضَ إطارِ السّنوار الكبير على مفاوضي "حماس" في الخارج
على المستوى السّياسي، قامت استراتيجيّة السّنوار الكبير والصغير على تجسيدِ المَعنى المُتعارَف عليه للنّصر في الصّراع، وهو "منع العدو من تحقيقِ أهدافِه" ما يعني في حالة نتنياهو منعه من تحقيقِ النّصر المُطلق ومنعه من تحقيق أهدافه المعلنة وهي: تحرير الرهائن بالقوّة العسكرية، نَزْعُ سلاح "حماس" واجتثاثُها.
وفي نهج التفاوض عينِه، واصَل السّنوار الصَّغير فرضَ إطارِ السّنوار الكبير على مفاوضي "حماس" في الخارج، وهو الحفاظُ قدرَ الإمكان على استقلالِ قرارِ "حماس" عن شركائِها الإقليميّين مُتضاربي المصَالح أي سواء عن شركائِها العسكريّين في إيران ومحور المقاومة أو أنصارِها السياسيّين والماليّين في أنقرة والدّوحة الداعمين لتيار الإسلام السياسي في الإقليم.
اتّسَمَ هذا النهجُ الاستقلالي الذي كرَّسه السّنوار الكبير وهنيّة والعاروري والتزم به الحيّة وجبّارين وآخرون من الموجودين في قيادةِ "حماس" بالعناصر التالية:
أسلوبُ التّفاوض تحت النّار لم يَعُدْ أسلوبًا إسرائيليًّا فقط، فقد طبَّقَتْهُ المقاومةُ لِيَصِفَ الجنرالات في إسرائيل المُستويَيْن السياسي والعسكري أي نتنياهو وهاليفي بالجُبْنِ السّياسي بعدمِ اعترافهما بأنَّ قبورَ العسكريين الإسرائيليين تزدادُ يوميًّا بسبب غزّة "سقطَ عشرَة جنودٍ إسرائيليّين وأصيب ضعفُهم في اليوميْن السابقيْن للإعلان عن الاتّفاق وعادت صواريخُ غزَّة تضرب غلافَ غزّة كأنّنا في اليومِ الأوّل من الحرب".
التّفاوض مع الإسرائيليين من دون لهفةٍ من جهة، ومن دون جَزَعٍ في صبرٍ وثباتٍ عجيبَيْن على قاعدةٍ صار الإسرائيليّون أنفسهم يؤمنون بها: هذه المقاومة ومفاوضوها يستوي عندهُم الموت مع الحياة، بعبارةٍ أوضح ليس لديهم ما يخسرونه.
هدْم النظريّة العربية البائِسة التي قادَت لكوارِث "كامب ديفيد" و"أوسلو" و"وادي عربة" التي احتكر فيها قرارات التّفاوض قائدٌ فرْد. إصرار السّنوار الصغير على بقاءِ نفوذِ غزَّة في صناعةِ القرار حافظَ على تعدُّدية جماعيّة قيّدت التّلاعبَ النّفسي الأميركي - الإسرائيلي وضغوط أنقرة والوسطاء على قادة الخارج.
ترامب يرغب في تحويل اتفاق وقف إطلاق النار في غزَّة منصّةً لاستكمال مشروعه وتعميم نموذج "السّلام الإبراهيمي"
القاعدة الأهمّ هي الدّخول في تفاصيل التّفاصيل ومنع أيّ صياغةٍ فضفاضةٍ وغامضةٍ، فالمعاهدات العربية السّابقة فسّرَتها واشنطن لاحقًا لصالِح إسرائيل. عندما ترى كمّيةَ التفاصيل عن أعدادِ الأسرى ونوعيّاتهم ومراحِل تسليمهم والخطوات المقابِلة من انسحابٍ تدريجيٍ وأعدادِ شاحنات المساعداتِ اليوميّة وخزائن الانسحاب التفصيليّة التي وردت في النّص والإطار المعلَنَيْن لا بُدَّ أن تعجبَ وأن تذهلَ من مستوى التفاوض لمنظماتِ المقاومةِ وهي ليست دولًا.
2 - ترامب:
السؤال: ما الذي يجعلُ ترامب يأمرُ نتنياهو بإبرام اتفاقٍ تراه المقاومة نصرًا - ولديها أسباب مقنعة - وتراه إسرائيل ثمنًا فادحًا ويراه يمينُها المتطرّف بن غفير وسموتريتش استسلامًا لـ"حماس" و"الجهاد"؟
الجوابُ هو رغبة ترامب في تحويل اتفاقِ وقف إطلاق النار في غزَّة منصّةً لدى العالم العربي لاستكمال مشروعِه للقرن الذي بدأه في ولايته الأولى وتعميم نموذجِ "السّلام الإبراهيمي" بالحصول على الجائزة الكبرى وهي ضمّ السّعودية إلى قافلة التّطبيع مع إسرائيل.
عندما وقّع بايدن مع محمد بن سلمان "اتفاق بهارات" في الهند قبل أسابيع من "طوفان الأقصى" كان في الحقيقةِ يستكمل مشروعَ ترامب والأهمّ من ذلك مشروع الأمن القومي الأميركي لإعادةِ تموضعٍ أفضل لأميركا في المنطقة والعالم بما يحدّ من النّفوذ الصّيني والرّوسي ويُعرْقل مسارَهما المشترك لإقامة عالمٍ متعدِّدِ الأقْطاب. مسؤولو إدارة بايدن الرّاحلون أو مسؤولو ترامب القادِمون لا يتركون أيّ غموضٍ في هدفِهم. الهدف من اتفاق غزَّة هو دمجُ إسرائيل في المنطقة، يقول بلينكن. السّعودية هي الهدفُ الأوّل، يقول مايك وولتز الصّقر الجديد لترامب. أمّا ترامب نفسه فيقول إنَّه سيستكملُ بالاتّفاق ما بدأه ويقوم بتوسيع "السّلام الإبراهيمي".
هنا يصلُ تقديرُ الموقفِ هذا لحلٍّ للجدل الدّائر، حول ما هي ضمانة نجاح مراحله الثلاث ووصولها إلى وقفٍ تامٍّ لحرب العام ونصف العام. بعبارةٍ أخرى، ما الذي سيمنع نتنياهو من تنفيذ تلميحاتِه إلى أنَّه سيعود للحرب في أيّ لحظة؟
إذا لم يشعر ترامب بأنَّ "الجوهرة" السّعودية تقترب من يدِه سيُطلقُ العنانَ لنتنياهو للعودة للحرب
الضّمانة سياسيةٌ - سياسيةٌ بوزنٍ استراتيجيٍّ ثقيلٍ، وهي ليست فقط في التزام "حماس" وإسرائيل بتعهداتِهما وإنّما هي أيضًا، بل أساسًا خارج غزّة. الذي سيمنعُه ويُبقيه عاجزًا عن التمرّد على ترامب كما تمرّد عدّة مرات على بايدن هو حصول ترامب في المرحلةِ الأولى على تَقَدّمٍ جوهريٍ في مفاوضات التّطبيع بين السّعودية وإسرائيل، حتّى لو كانت غير مباشرة "في المرحلة التأسيسيّة، وحتّى لو لم يتمْ الإعلانُ عن هذا التقدّم في المرحلة الأولى". وقف الحرب في غزّة مقابل استئناف مفاوضات التّطبيع مع السعودية، وإذا لم يشعر ترامب بأنَّ "الجوهرة" السّعودية تقترب من يدِه سيُطلقُ العنانَ لنتنياهو للعودة للحرب... أما إذا شعرَ في الأسابيع الستّة المُقبلة أن السّعودية آتية وستقابلُه في منتصف الطريق، فسيأمر نتنياهو وسيُطيع الأخير ويتمّ وقف الحرب في غزّة... إلى حينٍ وجَوْلةٍ مقبلَيْن لا محالة.
(خاص "عروبة 22")