وجهات نظر

سؤالُ "الوطن"

لم تكن مجرد مصادفةٍ أن يكون الطبيب (الألماني) الناجح الذي أجرى لي الجراحة في المستشفى الكائن في تلك البلدة البافارية الصغيرة من أصلٍ عربي، كما لم تكن مصادفةً أن يكون سائقُ سيارة الأجرة الذي أقلني إلى مطار فرانكفورت، وصمّم على أن لا يتقاضى أجرته حين سمعني أتحدث العربية، قد جاء إلى هذا البلد الأوروبي البارد من بلد "عربي" دافئ؛ ينتمي فيه إلى أقليته (لا هويته) الكردية.. وهذا حديث آخر.

سؤالُ

عدتُ إلى القاهرة صاحبة اللقب الستيني "قلب العروبة النابض"، لأجد المصريين يختلفون حول "وطنية" لاعب الاسكواش الذي اختار أن يلعب، كما شقيقه تحت العلم البريطاني (المحتل سابقًا)، ويقرأون مقالًا في مجلة مصرية عريقة لكاتب يقود حملة شوفينية يدعو فيها المصريين إلى التخلي عن هوية "الغزاة العرب"، ذاهبًا في مقاله إلى القول بأن: "هتلر كاد أن يتسيّد العالم بإحياء الهوية الألمانية، ولن تعود لمصر قوتها إلا بإحياء هويتها المصرية".

لم يفاجئني المقال، فتحت الشعار الديماجوجي "تحيا مصر"؛ التي كانت يومًا "الجمهورية العربية المتحدة"، أصبح هناك اليوم من ينادي؛ عالي الصوت بطرد السوريين، والسودانيين، والعراقيين.. إلخ، بل وتعلُّم "لغة البلاد"؛ الهيروغليفية القديمة بديلًا عن العربية "الوافدة"!

لم يفاجئني المقال، ولا عدد المصفّقين له. كما لم تفاجئني شوفينيته "الهتلرية". وجهُ المفارقة فقط هو أنّ زيارتي تلك إلى ألمانيا شملت زيارة المتحف الكبير في بون؛ العاصمة الغربية للبلد الأوروبي القوي الذي كان جموح الديكتاتور النازي قد تسبّب في تقسيمه في تلك الأيام المفصلية من عام ١٩٤٥. وهو الأمر الذي تناساه كاتب المقال، كما نسيه المصفّقون له.

في المتحف المخصّص أصلًا لتذكير الألمان - بمنتهى الموضوعية - بما جرَّته عليهم الشوفينية "الآرية" من مآس، تصادف أن أقيم في أحد أركانه معرض مؤقت تحت عنوان "Home" أو الوطن. وعلى لافتته الرئيسية صورة لفتاة محجبة ذات ملامح عربية واضحة.

الدلالات أحيانًا أهمّ وأعمّ من التفاصيل... وكذلك بعض الأسئلة

بجانب صورة الفتاة، كان هناك بعدة لغات سؤال رئيس: "ما هو الوطن؟"، وتحت السؤال، الذي كان واضحًا من يخاطِب، أطروحاتٌ بسيطة، وإن بدت فلسفية:

- هل الوطن هو قطعة الأرض تلك التي ولدت فيها، وولد فيها آباؤك، ويضم ترابها رفات أجدادك، أم ذلك الذي تعيش فيه وتشعر بالأمن والأمان والمساواة؟

- إذا كان هناك "وطن".. فهل هناك "أوطان"؟

بدا المعرض، بما يضمّه من شواهد وبياناتٍ وحقائق، ليس أكثر من دعوة للتفكير في السؤال، وما يرتبط به من أسئلة.

لستُ هنا بصدد تقييم التجربة الألمانية في استيعاب المهاجرين ومقارنتها بالفرنسية على سبيل المثال، فهذا قد يكون موضوعَ مقال آخر، ولكنني تذكرت "الأسئلة" حين شاهدت "الخناقة" المصرية حول "وطنية" اللاعب الذي قرّر لأسباب أعلنها أن يحمل العلم البريطاني، دون أن ينشغل أولئك المنافحون عن الوطنية بما جرى لآلاف غيره من المنفيين؛ قهرًا أو قسرًا في أركان الأرض الأربعة، بحثًا عن "وطن"؛ يطْعَمَهُم مِن جُوعٍ .. أو يُؤْمِنُهم مِنْ خَوْفٍ.

لا وطن بلا مواطنة.. ولا مواطنة بلا مساواة.. ولا مساواة بلا عدل

هل تذكرون الصورة (الصادمة) التي تناقلتها وكالات الأنباء قبل أشهر لأولئك الذين احتفلوا بهزيمة فريق "بلدهم" في المونديال؟! قد لا يهمّ هنا التذكير باسم البلد، فالدلالات أحيانًا أهم (وأعم) من التفاصيل. وكذلك بعض الأسئلة.

ما هو «الوطن»؟

شئنا أم أبينا، وأدركنا أو لم ندرك، فمع كل الاحترام للتعريفات سابقة التجهيز، أحسب أنّ إجابة السؤال على لافتة المعرض الألماني هي في ضمائر الناس شديدة البساطة والوضوح:

- "الوطن" ليس لافتة، ولا علمًا، ولا بيانًا يُسجل في جواز سفر. كما أنه ليس مجرد أرضٍ تصادف أن ولدت أو تعيش فيها. بل هو، كما حاول سائق التاكسي أن يشرح لي، وإن بلغته العفوية البسيطة: ذلك المكان / الكيان الذي تشعر فيه بالأمن، والأمان، والعدالة وعدم التمييز. وبأنك "كمواطن" لك الحق في المحاسبة والمشاركة في اتخاذ القرار.

- باختصار: لا وطن بلا مواطنة.. ولا مواطنة بلا مساواة.. ولا مساواة بلا عدل.

.. "تصبحون على وطن". 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن