اليوم، نستعرضُ في الجزء الثاني، بعضَ النّماذج لمشروعاتٍ إقليميةٍ يمكنُ استخدامها كقاطرةٍ لتحريكِ سلاسلِ الإمدادِ العربيةِ نحو تحقيقِ مزيدٍ من التّكامل الأفقي والرّأسي في عددٍ من المجالات، إلى جانب دراسةِ معوّقات التّكامل الاقتصادي العربي في الوقت الرّاهن.
مشروعُ منطقة "نيوم" الاستثماريّة نموذجٌ للمشروعاتِ العربية القاطِرة، التي تتمتّع بمزايا الحجْم والموْقع والتّأثير والتّشابك. تبلغ تكلفة المشروع حوالى 500 مليار دولار، ويقعُ على البحر الأحمر وخليج العقبة بمساحةٍ إجماليّةٍ تصل إلى 26500 كيلومترٍ مربعٍ، حيث يمتدّ من شمالي غربي المملكة العربية السّعودية ويشتملُ على أراضٍ داخل الحدودِ المصريّة والأردنيّة.
تصلُح البورصة العربية المشتركة مشروعًا قائدًا لصوَر التّكامل الاقتصادي في الاستثمار والتّمويل وحركة رؤوس الأموال
وقد أنشأت السّعودية ومصر صندوقًا مشتركًا بقيمة عشرة مليارات دولار لتطويرِ أراضٍ على مساحةٍ تزيدُ عن ألف كيلومتر مربع في جنوبِ سيناء ضِمْنَ مشروع "نيوم". من المقرَّر أن يُرَكِّزَ المشروع على تسعة قطاعاتٍ استثماريةٍ متخصّصةٍ، وأن يعتمدَ على مصادر الطّاقة المتجدِّدة فقط. يستهدفُ المشروعُ أن يكونَ منطقةَ استثمارٍ خاصَّةٍ مُسْتَثْنَاة من أنظمةِ وقوانينِ الدولة الاعتياديّة، كالضّرائب والجمارك وقوانين العمل والقيود الأخرى على الأعمال التّجارية، ما عدا الأنظمة السّيادية. يُخَطَّطُ لانتهاءِ المرحلة الأولى من المشروع في عام 2025، ومن المتوقَّعِ إتمام المشروع خلال فترة تتراوح ما بين 30 و50 عامًا وفقًا لتصريحاتِ مسؤولين سعوديّين لوكالة "رويترز" في وقتٍ سابق.
على الرَّغم من تأخُّرِ إتمامِ بعضِ مراحل هذا المشروع الضّخم بضغطٍ من الظّروف الدوليّة والإقليميّة، ومنها ارتفاعُ تكلفةِ التّمويل بشكلٍ يؤثِّر سلبًا على اقتصاديّات المشروع وجدواه، فإنَّه يظلُّ قائمًا في رؤيةِ المملكة العربية السّعودية، وركيزةً استثماريةً مهمَّةً تصلُح قاطرةً لتكاملٍ عربيٍ مُتَعدِّدِ الوُجوه، تتوافرُ من خلالِه قوى العمل المِصريّة والخِدمات التّمويليّة من مختلف دول الخليج العربي، وخبرات التّسويق من لبنان، وخبرات الطّاقة المُتجدِّدة وكثير من مُدْخَلَاتِ الإنتاج والتّصنيع من دولِ المغربِ العربي... وذلك بالطّبع وفقًا لدراسةٍ تفصيليّةٍ للمزايا النّسبية لتِلك الدول، وما عساها أن تضيفَه من قيمةٍ للمشروعِ وللدولةِ المُشاركةِ فيه.
تغليب العوامل السياسيّة هو ما تسبَّب في فشل جلّ محاولات التّكامل العربي
كذلك، تصلُح البورصةُ العربية المشتركة مشروعًا قائدًا لصوَر التّكامل الاقتصادي في مجالاتِ الاستثمار والتّمويل وحركةِ رؤوس الأموال والتّخَارُجِ من المشروعات. يمكنُ أن تنشأً بها منصّةٌ للأوراقِ المالية، وأخرى للسّلع والخِدمات، وثالثةٌ للعقودِ والمشتقّات. وعلى الرَّغم من وجودِ اتحادٍ للبورصات العربيّة منذ عام 1976، واتحادِ هيئاتِ الأوراق المالية عام 2007، غير أنَّهما لا يملُكان تأثيرًا يُذكر مقارنةً بتنظيماتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ أخرى مثل الاتّحاد العالمي للبورصات أو "إيوسكو" أو اتحاد البورصات الأوروبية - الآسيوية... إذ لم يَعْمَلَا على تطويرِ البنية التنظيميّة والرّقابية لأسواقِ المال العربيّة على النّحوِ المأمولِ من التّكامل والاتّساق، ولم يَشْرَعَا في تعزيزِ إقامةِ بورصةٍ عربيةٍ مشتركةٍ، تحظى بالنّشاط والفاعليّة وتدعم قَيْدَ وتعاملاتِ مختلف البورصات القائمة. ولن أتطرَّقَ في هذا المجالِ بالطّبع إلى كِياناتٍ هشَّة أُسِّسَت تحت مسمّى البورصة العربية إذ هي غير فاعلةٍ وغير نشطةٍ على الإطلاق.
بهذا النّوع من المشروعاتِ، يمكن للدّول العربية أن تتفادى الكثير من قيود التّكامل الاقتصادي الناشِئة عن تَمَاثُلِ هياكلِها الإنتاجيةِ المتّجهةِ في الغالِب إلى إشباعِ الطّلب المحلّي، وتَشَابُهِ قوائمِ صادراتِها من الموادّ الأوّلية بما يجعلها عرضةً للمُنافسة عِوضًا عن التّكامل. كما تضع تلك المشروعات القاطرة زمامَ الأمورِ في يدِ أصحاب المصالِح من القطاع الخاصّ إلى جانب مؤسساتِ الدولة، حتّى لا تنفردَ الأخيرة بتغليب العوامل السياسيّة على أي اعتباراتٍ أخرى، وهو ما تسبَّب في فشلِ جلّ محاولات التّكامل العربي السّابقة.
وإذ من المتوقّع أن تلعبَ التّجارة، والتّكامل داخل مِنطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، وبينَها وبيْن سائِر دول العالم، دورًا حاسمًا في الحدِّ من مخاطرِ الفقر وتمكينِ المهمَّشين وتعزيزِ النّمو الاقتصادي في فترةِ ما بعد جائحة "كوفيد-19"، كما أكَّد تقريرٌ للبنك الدولي، فإنَّ ضعفَ أداءِ التّجارة والتّكامل (حتى قبل أن تضرب الجائحةُ العالم) يُمكنُ أن يُعْزَى إلى عدّة عوامل اقتصادية وسياسية وأمنية. من النّاحية الاقتصادية، يبرزُ الأداء الضّعيف للخدماتِ اللوجستيّة، والإجراءات الجمركية المعوّقة وغير الفعّالة، وارتفاع تكاليف البنية التحتيّة، والأطُر القانونية غير الكافية للاستثماراتِ، واللوائح المتبايِنة... كأهمّ العوامل التي أدّت إلى ارتفاعِ تكاليفِ التّجارة، ونشأة الحواجز غير الجمركية أمام التّجارة وحركةِ الأفراد ورؤوس الأموال.
تُساهم تكاليف النّقل المرتفعة والحواجز التّقنية في إبطاء أي خطوة جادّة تجاه التكامل الإقليمي
وعلى الرَّغم من انخفاضِ متوسّطِ الرُّسوم الجمركيّة في المِنطقة، إلّا أنَّها لا تزال مرتفعةً مقارنةً بدول شرق آسيا والأميركتَيْن وأوروبَا. كذلك، تُشَكِّلُ التّدابيرُ غير الجمركية حواجزَ كبرى أمام التجارة والتكامل، إذْ تعيقُ تحدِّياتُ اللوجستيّات وبيئةُ الأعمال تكاملَ منطقةِ الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا في سلاسلِ القيمةِ الإقليميةِ والعالمية. كما تساهم تكاليفُ النّقل المرتفعة والحواجزُ التّقنية في إبطاءِ أي خطوةٍ جادّةٍ تجاه التكامل الإقليمي، على الرَّغم من التحسُّن النِّسبي في هذا الباب في دول الخليج وبعض المناطق الأخرى. إذْ لا تزال البنية التحتيّة اللوجستيّة منخفضةَ الكفاءة، خاصَّةً فيما يخصُّ تخفيضَ تكاليف التّجارة عبْر الحدود. بالإضافةِ إلى ذلك، تلعب البيروقراطيةُ، وغيابُ المعايير المشتركة، دورًا في صناعةِ تلك التحدّيات، كما تتداخلُ تِلك العوامل مع وفوراتٍ سلبيةٍ للاقتصاداتِ الحمائيّة والمُنْغلقة، حيث يحمي القائمون على القِطاعيْن العام والخاصّ "أسواقَهم"، مما يحدُّ من تنافسيَّة السّوق ويمنعُ الانفتاحَ الأكبر على العالم الخارجي.
كذلك أعاقت العقبات السياسيّة التَّعاون الإقليمي لأسبابٍ تتعلّق بتبايُنِ الأنظمةِ الحاكِمة، وتاريخٍ من الخلافِ الإيديولوجي والاحتقانِ متعدِّدِ الوجوه، بينما أثَّرت (وما زالت تؤثِّر) أحداثُ ما عُرِفَ بالرّبيع العربي، والصّراعات وأعمال العنف على النّشاط الاقتصادي بصفةٍ عامةٍ، وعلى جهودِ التّنمية والتكامل الإقليمي بصفةٍ خاصَّة.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")