أضعفَت تجربة محمد علي باشا طبقةَ التُّجَّار والحِرَفيّين المحلّية لصالح علاقةِ تحالفٍ بين رأسماليةِ الحاكمِ والمغامرين الأجانِب والضبّاطِ ذوي الأصول التّركية لتفتحَ البابَ بعد وفاتِه لنشوءِ طبقةٍ إقطاعيةٍ من الباشَوات الذين وزّع عليهم محمد علي إدارةَ الاحتكاراتِ مع سيطرةِ الأجانبِ على التّجارةِ والصّناعة، وهو أمرٌ تكرّرَ في المشْرق العربي في نهايات عهدِ الدولةِ العثمانيّةِ وفي شمال أفريقيا على يدِ الفرنسيّين.
وبعد نَيْلِ الدّول العربيةِ استقلالَها في العقودِ التّالية للحرب العالمية الثّانية، بدا العالمُ العربي في وضع مواتٍ أكثر من أغلبِ دول العالم الثّالث حيث لم يعانِ من التشظّي الإثني والدّيني والفقرِ ككثيرٍ من دولِ العالم الثّالث ولديه النّفط وموارد مالية أفضل مع ميزةِ القربِ من أوروبّا وطبقةٍ وسطى تبدو شكليًّا أكثر حداثةً وحتّى أناقةً من نظرائِها في الهند والصّين على سبيل المثال.
أخذت الهند والصين وكوريا الجنوبيّة من الحداثة مضمونَها وأخذ العرب قُشُورَها
لكن في المضمونِ، حمل كثيرٌ من النُّخبِ العربيةِ الجديدةِ لمؤسَّسات الدولة انحيازاتِهم العشائريّة والمذهبيّة، وبينما كانت بعضُ العواصمِ العربية أكثر أناقةً من مدن الصّين والهند المُزدحمةِ ونِسَبِ التّعليم فيها أعلى، ركّزَت بكين ونيو دلهي والنّمور الآسيويّة على جودةِ مُخْرَجَاتِ التّعليم وليس حجمَه وحاولت حلّ مشاكلِها بالبحثِ العلمي الدؤوب، بينما استوردَ العربُ الحلولَ والمنتجاتِ والأسلحةَ من موسكو أو العواصم الغربيّة، وحتَّى المصانع التي أنشِئت كانت أقرب لورشٍ عملاقةٍ للتَّجميع بهدفِ الفَخَار الوطني أكثر من الإنتاجِ الفعلي، والتّعيينات والتّقييمات كانت تخضع للاعتباراتِ السياسيةِ والاجتماعيةِ وليس الاقتصادية، فتوسَّعت المصانعُ الحكوميةُ في التّوظيفِ أحيانًا من دونِ حاجتِها للعمالةِ ولكن لامتصاصِ البطالةِ، وخبرُ افتتاحِ مصنعٍ جديدٍ أهمُّ من ضبْطِ ميزانيته السّنوية أو خطط تعميقِ الإنتاج المحلّي والتّدريب.
أخذت الهند والصين وكوريا الجنوبيّة من الحداثةِ مضمونَها وأخذ العربُ قُشُورَهَا، كما شجَّعت أموالُ النّفطِ على الاستيرادِ والمغامراتِ السياسيّةِ والبذْخِ وغيابِ الرّشادةِ الاقتصاديّة.
إنَّ تَعَثُّرَ التّحديث العربي يتحمَّلُ أسبابَه فاعلون عدّة، فالفكرُ الإسلامي بنسختَيْه التّقليدية والإسلامويّة السياسيّة عرقلَ التَّحديثَ بأوجهٍ عديدةٍ وركَّز على الجوانبِ الشكليّةِ في الدّين وتحوَّل لحالةٍ دفاعيةٍ عن أفكارٍ يُعِدُّهَا أساسيةً وهي ليست كذلك، وفشلَ في التّركيزِ على قِيَمِ الادِّخار والعمل والكفاءة والابتكار والعدالة الاجتماعيّة والتضامن الموجودة في التّراث.
ورَوّجَت تياراتُ الحداثة لتقدّمٍ شكليٍ من دون مضمونٍ تحديثي حقيقي، فاليَسارُ والقوميّون اهتمّا بالعدالةِ الاجتماعيةِ من دون تركيزٍ على قِيَمِ الكفاءة والانضباط والتّراكم الرّأسمالي، وافترضا أنَّ العدالةَ الاجتماعيةَ والوحدةَ العربيةَ كفيلتان وحدَهُما بتحقيقِ النّهضةِ التي بدت في أعينهم سهلةَ المنَال في الستينيَّات.
العروبة ضرورة اقتصاديّة وسياسية حتى من منظور قُطْرِيّ نفعي بحْت
وإلى اليوم يعارضُ الخطابُ الاجتماعي اليَساري الإصلاحَ لترشيدِ الدعمِ وتقليلِ أعدادِ موظفي الحكومةِ، ويدافعُ عن امتيازاتِهم التي تمنعُ المُحاسبةَ وفقًا للأداء تاركًا إياهم في وضعٍ مادّيٍ سيّء ولكن مع حمايةٍ اجتماعيةٍ مقدَّمةٍ من الدولة أفضلَ بكثير من الطَّبقاتِ العاملةِ بالقطاع الخاصّ لا سيما غيْر الرّسمي، التي لا تتمتَّعُ بدعمِ الحكوماتِ ولا تأييد قوى اليَسارِ الاجتماعي.
ركّزت التّيارات الليبيرالية على الحرّية، وتجاهلَت أنَّها لا تنجزُ من دونِ انضباطٍ وعصبٍ قومي وإنتاجٍ محلّي واستقلاليةٍ والأهمّ ضرورة الوحدة التي توسِّع الأسواق، وافترض كثيرٌ من المثقّفين والنُّشطاء أنَّ الديموقراطية وحدَها ستحقِّقُ التَّقَدُّمَ من دونِ مراعاةِ الكفاءةِ الاقتصاديةِ وحُكْمِ القانونِ وأهمّيةِ الاستقرارِ والانضباطِ المالي فتعثَّرت الديموقراطية التونسيّة على سبيل المثال، على الرَّغم من أداءِ البلادِ الاقتصادي الجيّد نسبيًّا في الحُكْمِ السّابق.
وبينما شجَّع الإسلامويّون والقوميّون واليَساريّون بالمنطقة المغامرات باسم مُنَاهَضَةِ الغربِ ودعمِ فلسطين من دون الاستعدادِ لردودِ الفعلِ على هذه المغامرات، قلَّلَ الليبيراليون من أهميةِ الأمنِ القومي العربي ومن دورِ الغربِ وإسرائيل التَّخريبي والأسوأ أنَّ كثيرًا منهُم ناصَبوا العروبةَ العداء على الرَّغم من أنَّها ضرورة اقتصاديّة وسياسية حتى من منظورٍ قُطْرِيٍّ نفعي بحْت.
العالم العربي يحتاج للاستثمار بالتعليم والبحث العلمي مع تعزيز الكفاءة الاقتصادية عبر التّخطيط السّليم الواقعي
والحكومات من جانبِها لم تحاول في الأغلب القيامَ بإصلاحٍ حقيقي وقلّلَت من أهمّيةِ الانفتاحِ السياسي في تحصينِ المجتمعاتِ وتحقيقِ الشَّفافية، كما قلَّلّت من تداعياتِ المحسوبيّة والاسترضاءِ الاجتماعي على الاقتصادِ والتعليم.
والرّأسماليةُ العربيةُ إمَّا حورِبَت أو تُرِكَت تعمل من دونِ توجيهٍ ورقابةٍ وضغوطٍ لتتطابق مصالحُها مع مصالحِ المُجتمعات.
ومنظوماتُ العمل العربي المشترك سقطَت في هُوَّةِ الشكلانيّة التي أخَّرت التّكامل الاقتصادي العربي الذي يعدُّ ضرورةً في ظلِّ صِغَرِ الأسواق القُطْرِيّة.
والنَّتيجةُ لدى العالمِ العربي مجموعةٌ من أقلِّ المؤسَّسات الاقتصادية والتعليمية والعلمية كفاءةً في العالم وهي المؤسَّسات الضرورية لأي تقدّم، ويعتمدُ الوطن العربي الذي كان مزرعةَ العالم ومصنعَه الأوّل، اليوم بشكلٍ أساسي على النَّفط وتحويلاتِ العاملين والمساعداتِ الخارجية.
على الرَّغم من هذه الصّورة السوداويَّة، فإنَّ المستقبلَ ليس بالضرورةِ كذلك، فالعربُ لم يجرِّبوا شروطَ النهضةِ ليُحْكَمَ بفشلِهم.
العالمُ العربي يحتاجُ للاستثمار بالتعليم والبحث العلمي مع تعزيز الكفاءة الاقتصادية عبْر التّخطيط السّليم الواقعي والاستفادةِ من الاستثماراتِ الوطنيةِ الضّخمةِ وإنشاءِ السّوق العربية المشتركة.
المُحاصَصَة الطائفية والمحسوبية "وصفة انتحار"
وعلى الرَّغم من فُرَصِ القرنَيْن الماضيَيْن الضّائعة، فإنَّ أوضاعَ الدّول العربية المضطربة تقدِّمُ للجميعِ درسًا بأهميةِ الدولةِ القويةِ وأنَّ الديموقراطيةَ يجب أن تُقَادَ بالعقلانية وأن تأتي عبْر الإصلاحِ التّدريجي، وتعزيز دولةِ القانون، وأنَّ المُحاصَصَةَ الطائفيةَ والمحسوبيةَ "وصفة انتحار". ولدى العالم العربي ملايين الشّباب المتعلِّم المنفتح وكثيرٌ من رجالِ الأعمال الوطنيين.
من المغرب إلى دول الخليج مرورًا بمصر، يبدو أنَّ بعضَ الحكوماتِ تتعلّمُ من تجاربِها وتركِّزُ على توطينِ الصناعةِ وهناك مؤشِّراتٌ إلى فهمِها لأهمّية التّعليم والابتكار واستقطاب الكفاءات والحاجة لبعض الإصلاحات الصّعبة.
كما يزداد الوعيُ لدى الكثير من الحكوماتِ ورجالِ الأعمالِ بأهمّيةِ المنظومة الاقتصادية العربية المشتركة باعتبارِها ضرورةً عمليةً وليست واجبًا قوميًّا فقط.
الأممُ تَمْرَضُ ولكن لا تموت، والعربُ، ليسوا كإسرائيل، مشروعٌ لا يحتمِل الفشل، بل هم أمةٌ حقيقيةٌ ما زال أمامَهم الفرصة للنجاحِ والتّعلّمِ من أخطائِهم.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")