خلصت النقاشات إلى أنّ السياسات الاقتصادية التي فرضتها النيوليبرالية قد أدّت إلى عدم وصول الخدمات العامة إلى كثير من القطاعات، ومن ثم زادت حدة اللامساواة بين الشرائح العليا وبين الشرائح الدنيا من المجتمع وتنامى الفقر وعدد الفقراء بقدر غير مسبوق. والأخطر الإهمال الجسيم الذي باتت تعانيه كتل مجتمعية وضح أنها غير موضوعة في حسبان السياسات الاجتماعية وخارج أنظمتها التأمينية والحمائية والرعائية.
ما يعني أنّ تحولات نوعية قد طالت الجسم الاجتماعي البريطاني تدفع بضرورة رسم خريطة طبقية تعكس جديد تشكّلات التكوينات الطبقية في بريطانيا، لأنه دون ذلك ستظلّ كتلًا بشرية - مجهولة الهوية الطبقية - محرومة من السياسات الاجتماعية. وأيقن المعنيّون أنه دون إدراك معرفي دقيق بهذا الجديد لا يمكن تخطيط وتنفيذ سياسات اجتماعية ناجعة لعناصر الجسم الاجتماعي المختلفة القديمة والمستجدة.
كشفت نتائج المسح البريطاني تحوّرًا لافتًا للبنية الطبقية المتعارف عليها
هكذا كشف الحراك البريطاني عن أمرين؛ الأول: جهل بالخريطة الطبقية المستجدة، وثانيًا: أثبت في الوقت نفسه، كيف أنّ الجهل بالأساس هو أحد مسبّبات الحراك، ومن ثم تقرر عمل مسح طبقي شامل.
استغرق المسح حوالى السنة، وبنهاية 2013 أعلنت نتائجه التي كشفت تحوّرًا لافتًا للبنية الطبقية المتعارف عليها. فلقد تمّ رصد سبع طبقات اجتماعية ونسبة السكان لكل طبقة كما يلي:
أولًا: طبقة النخبة (7%). ثانيًا: الطبقة الوسطى التاريخية (25%). ثالثًا: الطبقة الوسطى المهنية (6%). رابعًا: العمالة الجديدة الرقمية (15%). خامسًا: الطبقة العمالية (14%). سادسًا: طبقة العمالة الخدمية المؤقتة (19%). سابعًا: طبقة "المنسيون/المهمّشون/المقهورون" (15%)...
ساهمت نتائج هذا البحث في الكشف عن دقائق الجسم الاجتماعي/الطبقي البريطاني المُستجدة من حيث: أولًا: رصد التشكيلة الطبقية الجديدة المتبلورة وفق التطوّر الرقمي وتُعدّ القوة المحرّكة للثورة الصناعية الرابعة. وثانيًا: الطبقة الجديدة القابعة أقصى البناء الطبقي من أسفل. الطبقة الأكثر تضررًا من السياسات الاجتماعية للنيوليبرالية، والتي وصفها عالم الاجتماع وسياسات التنمية البريطاني جي ستاندينيج "بالطبقة الخطرة الجديدة" New Dangerous Class؛ أو طبقة "البريكاريات" Precariat؛ وقد قدّمنا هذا المصطلح للقارئ العربي مبكرًا واجتهدنا في ترجمته بطبقة "المنبوذين"؛ لأنهم يعيشون في وضع اجتماعي حرج يتجاوز وصفهم بالمنسيين، أو المهمّشين، أو المقهورين. وثالثًا: أنّ الطبقة السادسة المرصودة في تصنيف المسح أو طبقة العمالة الخدمية المؤقتة مرشحة للانضمام سريعًا إلى طبقة "البريكاريات" (المنبوذون)، ناهيك عن التوقع بانحدار مرتقب للطبقات الوسطى التقليدية إلى أسفل الجسم الاجتماعي إذا ما استمرّ الأخذ بالسياسات النيوليبرالية... وفي ضوء نتائج المسح صيغت مقترحات بتشريعات وسياسات تستجيب للخريطة الطبقية الجديدة.
عامل مشترك بين كثير من المجتمعات حول العالم هو الغضب من جراء اللامساواة واللاعدالة
في هذا المقام، نطرح سؤالًا ضروريًا، ألا يحتاج واقعنا العربي الراهن أن نجري مسوحًا طبقية/مجتمعية لفهم التحوّلات الطبقية التي جرت - يقينًا - في البنى المجتمعية العربية ما أدى إلى "الحراكات" المتعددة - أيًا كان رأينا فيها وموقفنا منها - ومن ثم يُتاح لنا فهم ما أفرزته تلك "الحراكات" من تحوّلات، أكيدة، في الجسم الطبقي/الاجتماعي ومن ثم رسم خرائط طبقية جديدة. أخذًا في الاعتبار دراسة تقاطعات هذه التحوّلات مع علاقات الإنتاج والثروة والهيمنة في الداخل من جهة، وعلاقة كل ما سبق بالنظام الاقتصادي العالمي من جهة أخرى.
وأثر ما سبق - بالأخير - على التشكّل المتجدّد للتكوينات الاجتماعية جغرافيًا، وجيليًا، وجندريًا، وإثنيًا،...،إلخ؛ خاصة وأنّ كثيرًا من الدراسات توضح أنّ ما أصاب الجسم الطبقي البريطاني سيكون متكررًا في كثير من الأجسام الطبقية لكثير من المجتمعات حول العالم، بالرغم من الاختلاف النوعي في المسار الاجتماعي والتبلور الطبقي لتلك المجتمعات. إذ إنّ هناك عاملًا مشتركًا بينها هو الاحتجاج/الغضب من جراء اللامساواة واللاعدالة...
إنّ رسم خرائط طبقية جديدة لعرب ما بعد الحراك من شأنه أن يعيننا على: أولًا: إدارة سياسية قادرة على تلبية احتياجات الجميع في إطار مشروع تنموي شامل. ثانيًا: تصويب التوجّهات الاقتصادية الجائرة والمتحيّزة ضد الطبقات المتضرّرة والتي تمثّل غالبية السكان. ثالثًا: إعادة النظر في توجيه عملية التراكم الاقتصادي وتأثيره على طبقات المجتمع المختلفة. رابعًا: دعم إمكانيات/مواجهة إعاقات الحراك الاجتماعي. خامسًا: تبنّي استراتيجيات تنموية تنعكس إيجابًا على طبقات المجتمع المختلفة. سادسًا: وضع علاجات مستدامة توقف أثر الاستغلال والفقر واللامواطنة (والعلاقة المركّبة والمتشابكة بينهم) على تفاقم المسألة الطبقية. سابعًا: دحض نظريات التمايز الاجتماعي التي سادت مع سياسات الليبرالية الجديدة المدعومة دينيًا وثقافيًا (اقتصاد السوق المفتوح) لتبرير التفاوتات والاختلالات المتعدّدة وكأنها قدر لا فكاك منه.
وبعد، إنّ نجاعة خياراتنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وتجسيد المواطنة بأبعادها من خلال سياسات عادلة بين الجميع مرهون بقدرتنا على إدراك طبيعة وإيقاع ونوعية التحوّلات التي تطرأ على الجسم الطبقي/الاجتماعي العربي.
(خاص "عروبة 22")