وجهات نظر

في حسابات الهدنة ومغزى "الطّوفان"!

أخيرًا، وَصَلَت الحربُ الإسرائيليةُ الوحشيّةُ على غزَّة إلى محطّةِ الهدنة، المفترض أنْ تُمَهِّدَ لوقفِ إطلاقِ نارٍ دائمٍ، لا نتوقَّعُ أن يكونَ نهائيًّا طالَما استمرَّت الحقوقُ الفلسطينيةُ سليبةً، والسّلامُ العادلُ غائبًا. وهنا يتجدَّدُ السُّؤالُ القديمُ الذي طُرِحَ في بداية الحرب: هل من جدوى لطوفانِ الأقصَى؟ وهل ثمَّة مغزَى لكلِّ ما جرَى من قتلٍ وتدميرٍ؟.

في حسابات الهدنة ومغزى

نعم تَمَّ إحياءُ القضيةِ الفلسطينيةِ في ضَمير العالمِ، وأُعِيدَ إِدْرَاجُها في حساباتِ المِنطقة. كمَا جرَى النَّيْلُ من صورةِ إسرائيل الذّهنيَّةِ كـ"دولة ديموقراطية" في بيئةِ مستبدّةٍ، و"دولة مسالمة" في وَسَطٍ عرَبي عُدْوَانِي، بعد أن تَكَشَّفَ لكلِّ المُجتمعاتِ وجُلّ النُّخَبِ الحاكمةِ، كم هي دولةٌ عنصريةٌ استيطانيةٌ، لا تتورَّعُ عن ارتكابِ جرائمِ الحربِ والإبادةِ والعِرقيّةِ بهدفِ قمعِ الفلسطينيّين وإسكاتِ صوتِهم إلى الأبَد، ممّا قد يطرحُ تأثيراته العمليّة على مسارِ الصِّراع وتوازناتِه في قادِمِ الأيَّام.

لكن يبقى جوهر السؤال: هل تستحقُّ تِلك الأهداف المعنويّة والرَّمزيّة التي تَحَقَّقَت للقضيّة كلّ ذلك الدّمار الذي نالَ من عمرانِ غزَّة، ومن دماءِ شعبِها الأبِي الذي ضربَ أروعَ الأمثلةِ في المقاومةِ والصُّمودِ والتَّشَبُّثِ بالأرضِ، خصوصًا وقد زادت أعدادُ الشهداءِ والجَرحى على المائتَيْ ألف؟.

لو انتظرت كلّ حركة مقاومة اللحظة التي يعتدِلُ فيها ميزان القوَّة ما قامت حركة تَحَرُّر ولا انتصر شعب على احتلال

يرى الكثيرون أنَّ تِلك الأهدافِ المعنويةِ لم تكن تستحقُّ ذلك الثَّمَنَ الفَادِحَ من الدّماء والدّمار، وهؤلاء غالبًا ما يتَّهمون المُقاومةَ باللّاعقلانيّةِ، والغفلةِ عن فداحةِ الاختلالِ في موازين القوّة مع العدوّ، وهذا في اعتقادِهم هو سرُّ الخَلَلِ الجَسِيمِ في حساباتِ المكاسبِ والخسائِر. ولكنَّ هذا الاتِّهامُ يظلُّ غيْر ذي معنَى في الحقيقةِ، فلو انتظرَت كلّ حركةِ مقاومةٍ في أيّ مكانٍ وزمانٍ تِلك اللحظةِ التي يعتدِلُ فيها ميزانُ القوَّة مع المحتلِّ الغاصبِ ما قامَت حركةُ تَحَرُّرٍ واحدة، ولا انتصرَ شعبٌ على احتلالٍ قطّ، فالميزانُ يعتدلُ فقط بقوَّةِ المقاومةِ، ببذلِ التضحياتِ دونَما توقُّف، فالصَّبرُ مع قوَّةِ البأسِ همَا فقط اللذان يُحيلان القوَّةَ الأخلاقيةَ للمَظلومِ/المُحتلّ إلى متواليةِ قوَّةٍ شاملةٍ ترفعُ من شأنِ المقاومة، وتحطُّ من شأنِ الظَّالمِ/المُحتلّ حتى تأتيَ تلك اللحظة التي يتحقَّق فيها التّوازُن ويفتح الباب على طريق الحرّيّة. تلكَ هي سُنَّةِ التاريخِ السياسي في كلّ مكان، وأيْ زمان.

وفي اعتقادِنا، أنَّ الخللَ الفادِحَ في الحسابِ الاستراتيجي لم يَكُنْ إلَّا نتيجةَ الخذْلان العربي المَقِيت الذي لمْ تتصوّر المقاومة أن يكون على هذا النَّحو. فإذا كانت الوحشيةُ الإسرائيليةُ مجرَّبةً ومألوفةً، وإذا كان الانحيازُ الأورو ـ أميركي متوقعًا ومعتادًا، وعجْزُ الأممِ المتّحدةِ متكرِّرًا ومعروفًا، على النَّحو الذي أدانَهُ المفكِّرُ اليَهودي الأميركي نورمان فنكلشتاين في منطقٍ شامخٍ، قائلًا: "إنَّ مفهومَ الحمايةِ الأخلاقيةِ، والمسؤوليةِ الأخلاقيّةِ عن كلِّ المضطهدين، التي طالما نادَى بِها الغرب، وقامت لأجلها المؤسَّسات الدوليّة، قد خانَهَا الطّرفان، نفاقًا أو عجزًا، فإنَّ غيْر المتوقَّع ولا المُتَصَوَّر إنَّمَا هو الموقفُ العربي المحايدُ، الصامتُ، العاجزُ، المُخزي، الذي اخْتُصِرَ في مجرَّدِ إداناتٍ ديبلوماسيةٍ تُرَاوِحُ ما بين درجاتٍ مُنخفضة ومتوسّطة الشدَّةِ، لا ترقى إلى مُستوى العملِ السياسي المُنَظَّمِ والهادف، ناهيك عن التَّحرُّكِ الاستراتيجي الفعَّال".

يبدو أنَّ شعوب المجتمعات العربيّة وقعَت تحت تهديد شديد أفضى إلى شلّ فعاليتها

وكأنَّ القضيةَ المتفجِّرَةَ، التي كانت يومًا قضيةَ العربِ المركزيّة، صارَت تخصُّ بلدًا بعيدًا في أقصى الجنوبِ اللّاتيني أو أقصى الشّرقِ الآسيوي، وليْست حربَ إبادةٍ في جوْفِ الإقليمِ، لا يمكن للضَّمير الإنساني أن يتحمَّل عذاباتِها، ناهيكَ عن الضَّميرِ العربي الذي يبدو وكأنَّه قد تعطّل عن العَمَلِ كما لم يحدُثْ له من قبْل. فحتّى في العصْرِ الجاهلي كان لدَى القبائِلِ العربيةِ مجموعةٌ من القِيَمِ تقومُ مقامَ النّزعةِ الإنسانيّةِ وتُجَسِّدُ الحدَّ الأدنى من الحسِّ الأخلاقي كالنَّجدةِ والنَّخوةِ والشَّرفِ، وهو ما انتفى لدينا في هذه المِحنةِ بالذّات، ليظهرَ لدى دولٍ أخرى ومجتمعاتٍ أخرى في نطاقاتٍ إستراتيجيةٍ وثقافيةٍ بعيدةٍ جغرافيًّا، قامَت بأدوار أكثرَ فعَّاليةٍ بما لا يُقارَن، سواء كان ذلك الدَّوْرُ قانونيًّا على النَّحوِ الذي لعبته جنوب أفريقيا في اتِّهام إسرائيل بالإبادةِ الجماعيةِ والتَّطهيرِ العِرقي أمام محكمةِ العدلِ الدوليةِ، أو الدَّور السِّياسي الذي لعبَته الكثير من دولِ أميركا اللّاتينية سواء بقطْعِ علاقاتِها الديبلوماسيّة مع إسرائيل أو حتى من خلالِ تجميدِ تِلك العلاقةِ، أو حتَّى ما صَدَرَ عن بعض الدول الأوروبيّةِ كإسبانيا وإيرلندا من ممارساتٍ ومواقفَ سياسيةٍ إيجابيةٍ بلغَت حدَّ الاعترافِ بالدّولة الفلسطينيَّة. بل إنَّ المظاهراتِ التي خرجَت في دول غرب أوروبا والولايات المتّحدة عينِها، وبالذّّاتِ حركة الطلّاب في الرّبيعِ ومطلع الصيف الماضي، لا يوجدُ ما يُشْبِهُها أو حتَّى يقتربُ منها في جلّ المُجتمعات العربيّة، التي يبدو أنَّ شعوبَها وقعَت تحتَ تهديدٍ شديدٍ، أفضَى إلى تجريفِها وشلّ فعَّاليَتِها!

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن