في هذا الإطار، تعدَّدَت الأسئلة وتنوَّعت الإجابات حول العهدِ التّرامبي الثّاني. بيْد أنَّه من الأهمِّيةِ بمكان وقبل التطرُّقِ إلى مضمونِ الاجتهاداتِ التي تناولَت مستقبلَ الإدارةِ "التّرامبية" إلقاءَ الضّوء حول شخصيّة الرَّجل - المثيرة للجدل - وتاريخِه. إذ ربَّما كثيرون لا يعرفون أنَّ "دونالد ترامب" قد حَلِمَ برئاسةِ الولايات المتحدة الأميركية قبل ما يقربُ من أربعةِ عقود وتحديدًا في سبتمبر/أيلول من العام 1987 عندما نشرَت جهةٌ تجاريةٌ إعلانًا لتأييدِ ترشُّح "ترامب" لمقعدِ الرِّئاسة الأميركية في انتخاباتِ 1990.
انقلابات دراماتيكيّة حلم بها ترامب في شبابِه ودَفَعَت أحدَ الكُتَّاب إلى وصف عهده الأوَّل بـ"Trumpocalypse"
كان لهذا الإعلانِ صدًى كبير - آنذاك - في الأوساطِ السياسيةِ والاقتصاديةِ الأميركية، إذ أبْدَت جماعاتُ المصالحِ الاحتكاريَّة وما يُعْرَفُ بالدّولةِ العميقةِ استياءً عارمًا بخاصّة أنَّ الإعلانَ قد رافقَه آراء لـ"ترامب" مفادها أنّ: "... الولاياتِ المتّحدة تستنفدُ نفسَها لتحميَ حلفاءً أصبحُوا أثرياءَ نتيجةَ إعفائِهم أنفسهم من التّوظيفِ في الدِّفاعِ، ولأنَّ واشنطن هي المُغَفَّلُ المخدوعُ في نظامٍ عالميٍ لا يفيدُ إلّا الآخرين"...
الأهمّ أنَّه أعلن بوضوحٍ خطأ استمرارِ الولاياتِ المتّحدة الأميركية في عضويةِ المؤسَّسات الدوليّة حيث أبدى بوضوحٍ ضرورةَ "مقاطعةِ هذه الهندسة أو هذا البناء". ما اعْتُبِرَ - وقتئذٍ - كلامًا غير مسؤول، "ويقتلُ الطّقوسَ المستقرَّة" حسب تعبير إحدى الباحثاتِ المُعاصراتِ في تقييمِها للحصادِ النِّهائي للانقلاباتِ الدراماتيكيّة التي حلم بها الرَّجل في شبابِه، ونفَّذ جانبًا منها في فترة رئاستهِ الأولى وكانت لها تداعياتٌ كارثيّةٌ دَفَعَت أحدَ الكُتَّابِ إلى وصفِ العهدِ الأوَّل لترامب بـ"الترامبوكاليبس Trumpocalypse"؛ بحيث رَصَدَ في كتابِه الذي حمل العنوان عينه كيف أنَّ الكثيرَ مِن قراراتِ ترامب قد أوْدَت إلى نهاياتٍ كارثيَّةٍ (نشير هنا إلى أنَّ "أبوكاليبس" كلمة يونانية تعني حرفيًّا "رفع الغطاء" أو كشف المحجوب والمستور خصوصًا فيما يتعلّقُ بمستقبلِ العالم أو ما سيؤولُ إليْه العالم. وبمرورِ الوقتِ أصبحَ المعنَى المتداول لكلمةِ "أبوكاليبس" يدلّ على النِّهايةِ الكارثيةِ للعالم).
وتمثَّلت التداعياتُ الكارثية لسياساتِ وقراراتِ ترامب في عهدِه الأوَّل كما رَصَدْناها في إحدى دراساتنا في الآتي:
أوَّلًا: الانقسامُ المُجتمعي: الإثني/ الثَّقافي/ الطَبَقي/ الاجتماعي.
ثانيًا: المحاولةُ الدؤوب لإفشالِ كلّ الجهودِ الرئاسيَّةِ السابقةِ - بخاصة في فترتَيْ رئاستَيْ أوباما - لتطبيقِ برنامجِ رعايةٍ صحّيةٍ يراعي الطبقةَ الوسطَى والطَّبقاتِ الدُنيا الأميركية.
ثالثًا: إهمالُ إدراجِ أيّ سياساتٍ تتعلَّقُ بالبنيةِ التحتيَّةِ المتراجِعةِ في الكثيرِ من المناطقِ - خصوصًا الفقيرَة - والتي تحتاجُ إلى أكثر من 5 تريليونات دولار تقريبًا لمدة خمس سنوات.
رابعًا: فشلُهُ في حمايةِ الاقتصادِ الأميركي والعمالةِ الأميركيَّةِ كما وَعَد.
خامسًا: الموقفُ المتشدِّدُ والمبالغُ فيه حيال المهاجرين إلى أميركا.
سادسًا: الانسحاب الأميركي/التنصُّل الأميركي من المحافلِ الدوليَّة والالتزامات الماليَّة الواجِبة تجاهها.
سابعًا: التّصعيدُ النّوَوي.
ثامنًا: الكراهيةُ الشَّديدةُ لما باتَ متداوَلًا للدولةِ العميقةِ الأميركيةِ واستعدائِها المستمرّ.
تاسعًا: الإخلالُ بالتَّوازنِ الدّولي.
عاشرًا: تعرُّضُ الإدارةِ الأميركيةِ لاستقالاتٍ مستمرَّةٍ من قِبَلِ كبارِ موظفيها الذين اختارهم "ترامب" بنفسه.
كثيرون يروْنَ ترامب رئيسًا تنفيذيًا يدير الدَّولة باعتبارها "شركة خاصة مساهِمة محدَّدَة المدّة" والمُواطن "حامل أسهم"
وفي كتابٍ لنا قيْد الطَّبعِ عنوانُه: الإمبراطوريةُ الأميركيةُ: ثلاثيّةُ الثروةِ والدّينِ والقوةِ... من التَّوسُّعِ والتفرُّدِ إلى اختلالِ التّموضعِ والتعدُّدِ؛ أفردنا فصلًا عنوانُه: "الزَّمن التّرامبي"؛ فصَّلنا فيه أسبابَ التَّداعياتِ الكارثيةِ "التّرامبيةِ" أَحَلْنَا تفسير حدوثِها إلى تحليلَيْن معتبَرَين نذكرُهما في عنوانَيْن هما: الأوّل: "الذّهنيةُ الصَّفقاتية" Deal Mentality؛ الثَّاني: "السُّلوكُ الغَريزي/الغرَائِبي" Instinctual Behavior؛ وفي عجالةٍ نلقي الضوءَ على دلالاتِهِما كما يلي:
أوَّلًا: "الذّهنيَّةُ الصفقاتيةُ"؛ وحوْلها كتبَت المحرِّرةُ الاقتصاديةُ في صحيفة "الفايننشال تايمز" في طبعتِها الأميركية، بتاريخ 11 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، مقالًا عنوانه: "الشّركةُ الأميركيةُ ورئيسُها التّنفيذي الجديد" American Inc & its new CEO؛ عبَّرَت فيه عن مخاوفِ الكثيرين الذين يروْنَ ترامب رئيس دولةٍ بدرجةِ: "كبير المديرين التنفيذيّين "CEO: chief executive officer"؛ أو رئيس تنفيذي، يديرُ الدَّولةَ باعتبارِها "شركةً خاصةً مساهِمةً محدَّدَةَ المدّة (أربع سنوات) تهدفُ إلى تحقيقِ أعلى رِبْح"، وأنَّ المُواطنَ لديه هو "حاملُ أسهم".
ثانيًا: "السُّلوك الغريزِي/الغرائِبِي"؛ حيث فسَّر بِه "جيل باريس"، مراسلُ صحيفة "لوموند" الفرنسيةِ في واشنطن، مجمل السُّلوكِ "التّرامبي" من خلالِ وقائعَ محدَّدَةٍ بأنَّه يعكسُ شخصيةَ رجلٍ لا يرى إلّا نفسِه، ومشروعِه. ففي كلّ ما يفعَل "نجدُه ينادِي ويجاهِدُ ويفعلُ ما يعني له وِفقَ قناعتِه التي قد تتناقضُ مع الواقعِ والمنطقِي والمتعارفِ عليه، ومستقرّ، في السياسةِ الأميركيَّةِ داخليًّا وخارجيًّا. ولا تصبُّ في النِّهاية إلّا لصالحِه في المقام الأوَّلِ - والذي يراه لصالِح أميركا - ولصالحِ الطبقةِ "الأوليغاركيّة" الثّريةِ التي يمثِّلُها لتمكينِها من الحفاظِ على مكاسبِها من دون انتقَاص.
تكاثَرَت الأسئلة البحثيّة والسياسية والشعبية في الولايات المتحدة وخارجها حول الأداء المرتقب للرّئيس "المُسْترْجَع"
الخلاصةُ، أنَّ تلك الإشكاليّات، وغيرها، قد تحوَّلت إلى إخفاقاتٍ مؤكَّدَةٍ للعهدِ التّرامبي الأوَّل، ما دفع أحد الباحثين إلى وصف العهد بـ"البائِس". ولذلك، وكما أشرنا إليه، تعدَّدَت الأسئلة - المتوجِّسة - وتنوَّعت الإجابات، في ضوء مقارباتٍ متنوّعةٍ، حوْل مدَى إمكانيّةِ الرئيسِ المنتخبِ، لدورةٍ ثانيةٍ، "دونالد ترامب"، على تجنُّبِ تلك الإخفاقاتِ في عهدِه الثاني. ومن ثمَّ تكاثَرَت الأسئلةُ البحثيّةُ والسياسيةُ والشعبيةُ في داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجِها حوْل الأداءِ المرتقبِ للرَّئيسِ "المُسْترْجَع" Trump Redux؛ حسب الدِّراسةِ الافتتاحيةِ لدوريَّةِ اليَسارِ الجديدِ الصَّادرةِ في نهايةِ العامِ الماضي عقبَ تأكُّد فوز "ترامب"، بخاصة أنَّه رجع إلى "البيت الأبيض" في ظلِّ أغلبيةٍ جمهوريةٍ في كل من غرفتَيْ تشريع الكونغرس الأميركي: النّواب والشّيوخ. ما قد يوفِّر قَدرًا من "اللّجم" للجموحِ التّرامبي، أم أنَّ الرجل سيتمادى في طموحِه ويستمرُّ في الانقلابِ على الطّقوسِ الأميركيةِ المستقرَّة، آخذًا في الاعتبار أنّ ولايتَه تواجِه - حسب عدّة دراساتٍ صدرَت مطلع هذا العام 2025 - اختلالاتٍ مجتمعيَّة في الداخل الأميركي، يواكبُها، في الوقت عينه، صراعٌ عالمِي ممتدّ عبر مجموعةٍ من الصّراعاتِ الإقليميةِ/المناطقيةِ (من هذه الدّراسات نشير إلى ما ورد في ملف دورية "فورين أفيرز" المُعنوَن: الانتصار الغريب لأميركا المُنكسرة؛ عدد يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط 2025).
تعدَّدَتْ الإجاباتُ البحثيَّةُ والاستراتيجيةُ حول "ترامب الثاني" (ترامب ...02)، الذي يبدو أنَّه يعودُ وهو يتبنَّى تَوَجُّهًا - صلبًا - لتأسيسِ نظامٍ "ضدّ ليبيرالي" Antiliberal Order؛ وهذا ما سوف نلقي الضوء عليه لاحقًا.
(خاص "عروبة 22")