بصمات

السّيادة.. الإسلام.. المواطَنة!

لا تعارُض البتة بين كلّ حدٍّ من هذه الحدودِ الثلاثة مع الحدَّيْن الآخرَيْن - على النّقيضِ ممّا يعتقدُ دعاةُ "الإسلام السياسي" ويروِّجُون له. فالحقُّ أنَّ بين الإسلام وبين السّيادة (على النّحو الذي يمثلُ به المفهومُ في الفكرِ السّياسي الحديث) انسجامٌ تام، والحقُّ أيضًا أنّه لا نشازَ في القولِ ولا قلقَ في العبارة (كما يقول الفيلسوف ابن طفيل) في الجَمْعِ بين الإسلامِ وبين المواطَنة في صعيدٍ واحد. وكما أنًّ الجمْعَ بين الانتماءِ إلى الإسلام دينًا وبين الأخذِ بمبدأ "السيادة" (على النّحو الذي يحضر به المفهوم في الفكر السياسي الحديث) جمْعٌ جائزٌ من جهتَيْ الشّرعِ والمنطقِ معًا، كذلكَ نقولُ إنَّ الجمعَ بين الإسلامِ دينًا وبين مبدأ "المواطَنة" (على النّحو الذي يفيده القاموس الفلسفي السياسي الحديث) جمعٌ سليمٌ كذلك، من جهتَي الشّرعِ والعقلِ معًا.

السّيادة.. الإسلام.. المواطَنة!

يفيدُ الوقوفُ عند هذه الحقائق الأوّليّة (كما يقول الفلاسفة) صِدْقَ أمرَيْن اثنَيْن أساسيَّيْن، بالنِّسبة إلينا عربًا مسلمين وغير مسلمين، ومسلمين عربًا وغير ناطقين باللّغةِ العربية من الذين يُدينون بالإسلام في أصقاعِ العالم (مع اختلافِ نُحلِ النّاس وتبايُنِ اختياراتِهم السياسية).

الأمرُ الأوّلُ، أنَّ كلّ الأسانيد الثقافيّة والمنطقيّة والأنطولوجيّة التي تستندُ إليها دعاوى الإسلامِ السّياسي في حديثِها عمّا تقولُ عنه إنّه الدولةُ الإسلاميّةُ، تارةً، وتنعتُهُ بدولةِ الخلافةِ (أو الخلافةُ الثانيةُ الواجبُ إقامتها) تارةً أخرى، لا تملكُ أن تصمدَ أمام الحقائقِ التي ألمَحْنا إليها وإنّما هي تتهاوى، الواحدةَ تلو الأخرى.

ليس في الدّين الإسلامي ما يحملُ على القول بوجود تنافٍ بين الديانة المُحَمَّدِيّة وبين قبول مبدأ المواطَنة

ثاني الأمرين، هو أنَّ ما كان يَرِدُ في أدبيّات فكرِ النهضةِ العربيةِ المعاصرةِ (في كتابات محمد عبده، الكواكبي، علي عبد الرازق... وغيرهم) عن الدولةِ وطبيعتِها في الإسلام قولٌ صحيح. وما كان متواتِرًا عند مفكّري الإسلام في عصرِ النّهضةِ هو أنَّ الدولةَ في الإسلامِ مسألة مدنيّة لا دينيّة أو كما في عبارةِ الشّيخ محمد عبده فالدّولةُ "قضيةٌ مدنيةٌ من جميع الوجوه". وهذه القضيةُ تتأكَّدُ للنَّاظِرِ المتفكِّر صحّتها، لا من جهتَي الشّرعِ والعقلِ فحسب، بل إنَّ مسارَ تاريخِ الإسلام (التّاريخ العيْني لا التّاريخ المتوهّم) ينضحُ بالأدلّةِ على ذلك.

في عبارةٍ أخرى، فإنَّ ما كان يُنْعَتُ في خطابِ الفكرِ العربي في عصرِ النّهضةِ بالدّولةِ المدنيةِ (وهو ما نقصدُه في خطابِنا المعاصرِ بالدّولةِ الحديثة) لا يشكو من اضطرابٍ في الفهمِ أو تَشَوُّشٍ في الفهمِ من حيث موافقةِ الإسلامِ لطبيعةِ وروحِ الدولةِ كما يعرفُها الفقهُ الدّستوري المعاصِر. وما يقبلُ الاستنتاجُ، بكيفيةٍ طبيعيةٍ (أي ما يترتّبُ على ذلك)، هو أنَّ الدولةَ في التَّصَوُّرِ الاسلامي السّليمِ للدّولة (وليسَ الإسلامَ المُفْتَرَى عليْه، ولا بأس من تكرارِ العبارةِ مرةً أخرى) هي دولةُ المواطِن. واستتباعًا لذلك، نضيفُ أنّه ليس في الدّينِ الإسلامي ما يحملُ على القولِ بوجودِ تنافٍ بين الديانةِ المُحَمَّدِيّة وبين قبولِ مبدأ المواطَنة (كما تُعرفُ في الفكرِ السّياسي الحديثِ وفي الفقهِ الدستوري المُعاصر).

والمواطَنةُ ليْست محضَ رباطٍ قانونيٍ يجمع بين أفرادٍ ينتمون للبلدِ نفسه أو مجرّدَ انتسابٍ إلى جنسيةٍ واحدةٍ، بل إنّها أبعدُ من ذلك وأشدُّ غَوْرًا. المواطَنَةُ رباطٌ روحي يشدُّ المواطنين بعضُهم للبعضِ في "كلّ واحدٍ"، فهي، متى اعتبرنا قاموس جان جاك روسو، سلطةٌ فكريةٌ نحتكمُ إليها في الحديثِ عن دولةِ التعاقد (وبالتّالي دولة المواطِن والسِّيادة)، أحد تجلِّيَاتِ "الإرادةِ العامة" فهي، في لغتِه أيضًا، لُحْمَةُ التعاقدِ الاجتماعِي وثمرتُه معًا.

"الدِّين للّه والوطنُ للجميع" مبدأ يقرُّهُ الإسلام 

يقرُّ الإسلامُ مبدأ المواطَنة، وقد وَرَدَ عن نبيّ الإسلامِ قوله إنَّ حبَّ الأوطانِ من الإيمان، وتَرْوِي كتبُ السّيرةِ أنَّه كان في حزنٍ شديدٍ من وجوبِ الهجرةِ من مكّة، حفظًا لدينهِ ونفسهِ وأنَّه جاهرَ في ذلكَ بالشّكوى. وفي العصورِ الذهبيّةِ للإسلامِ، كان المرءُ يُنْسَبُ إلى منطقةٍ أو بلدٍ قبل أن تُذكَرَ ملّتُه ويُذكَرَ اعتقادُه، وأنَّ مِن خَطَلِ الرّأيِ وضيقِ أفقِ الفهمِ ومجالِ النّظرِ أن نَحسبَ أنَّ التّمييزَ الذي اشتُهرَ في التّراثِ الإسلامي بيْن "دارِ السّلام" و"دارِ الحرب" كان المقصود منه التَّمييز بين مجالِ الاجتماعِ على أساسِ الدّينِ الإسلامي وحدِه وإقصاء مَنْ كانَ مِن المخلوقين لا يدينُ بدينِ الإسلام.

"دارُ السّلام" هي، على نحوِ ما كان عليه الحال في "العصرِ الذّهبي" للإسلام، دارٌ كانت تقرُّ التعدُّدَ والاختلافَ، وذلك كان أحدُ أسبابِ القوّةِ والازدهار. "الدِّينُ للّه والوطنُ للجميع" مبدأ أو شعار يقرُّهُ الإسلامُ وتقرُّهُ طبيعتُه.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن