لستُ أعرفُ كيفَ تكونُ حياتي من دونِ الكتابِ والقلم، وقد حظيتُ بأربعٍ كانت هي الأجمل في حياتي: القراءةُ، والسّفرُ، والسّينما، وصوتُ "فيروز".
كان السّفرُ يمنحُني القدرةَ على قراءةِ الأماكنِ والنّاسِ والعاداتِ واختلافِ الثقافات بيْنمَا أهدَتْني القراءةُ مفتاحَ الحياة، تنزَّهت بي في عقولِ الكُتَّاب، ومنحتْني القدرةَ على السّفرِ (من دون تأشيرةٍ ولا بطاقةِ تجوّلٍ، ومن غيرِ أن أتحرَّكَ من مكاني)، تأخذني إلى عوالمَ من الأفكارِ، والأحداثِ، والمدنِ، والتّواريخِ، ومساحاتٍ من الخيال، وأخرى من الحقائِق. في حين منحتني السّينما ذلكَ كلّه في زمنٍ قياسيّ (قرابة الساعتَيْن)، تجمعُ لي بين خُلاصاتِ القراءةِ وخبراتِ السّفرِ وجماليّاتِ الفنون. أمّا صوتُ "فيروز" فهو الصّاحبُ الذي لم يفارِقْني منذ مراهقتي حتّى اليوم، ظلَّ يؤنسُ وحدتي في أيّ حالةٍ من حالاتي النّفسيّة، محبًّا كنتُ أم ساخطًا، حزينًا أم تحملُني الفرحةُ على جناحَيْها، مُحْبَطًا أم تطيرُ بي فراشاتُ التفاؤل.
من الكتاب الطّيني إلى الورقي حتَّى الطِّباعة والكتاب الإلكتروني.. لم يعرف شكل الكتاب غير التطور على مرّ الزّمان
في حضورِها الظّاهرِ في بيتِنا كانت الكتبُ تملأ أَرْفُفَ المكتبةِ التي تحتلُّ مساحةَ حوائِطِ البيت، تُحرِّضُني على القراءةِ منذ فككتُ الخطَّ، وحين ارتدتُ معرضَ الكتابِ لأوَّلِ مرَّة صارَت أجمل السَّاعاتِ فـي حياتي وأسعدها تلك التي قضيتُها في الطّوافِ على المكتباتِ في أرضِ المعارض، ثم تلك الأوقات التي تعقبُ رجوعي إلى البيتِ، يحملُني الشَّوقُ إلى كتبِي الجديدة أتشمَّمُها، وأتصفَّحُ صفحاتِها، تتملكُني لهفةَ اللّقاءِ الأوّل بين حبيبَيْن فرَّقت بينهُما الأيام.
في مرحلةِ ما قبلِ الجامعة كنتُ أقرأ بعشوائية، لم أتعلّم أهميةَ القراءةِ الممنهجةِ إلّا مع دخولي الجامعة، ساعتَها تأكَّد لي أنّي حصَرْتُ قراءَتي في مساحةٍ محدودةٍ وضيّقةٍ من المعرفة، عندها كسرتُ تلك الأسوار، وتنوّعت قراءاتي وانفتحت أمامي عوالم كنتُ فد أغلقْتُ أبوابَها من قبل.
انشغلْتُ بالانكبابِ على قراءةِ كتبِ التّراثِ وأعلامِ العربِ والمسلمين، ومع دخولِ الجامعةِ مع مفتتحِ السبعينيّات من القرن الماضي، انفتحَت أمامي طاقةُ القدْرِ الثّقافيّة، واتجهَت بوصلةُ قراءاتي إلى مطالعةِ وقائعِ التَّاريخِ القريب، وقد كنَّا نراهُ يُزَيَّفُ أمامَ أعينِنا كلّ يوم.
من بعد، تعدَّدَت قراءاتي وتعمّقَتُ في الفلسفةِ والماركسيّة، والدّين المُقارن، وسائرِ العلومِ الاجتماعيّة، إضافةً إلى دراستي القانونيّة، وشاء لي حظّي أن أتعرَّفَ عن قُربٍ إلى بعضِ كبارِ الكُتَّابِ أصحابِ الثّقافةِ الموسوعيّة ممّن تبحَّروا في قراءاتٍ متعددةٍ في شتّى مناحي الثقافةِ بلغتِها الأصليّة، وكثيرٌ منهم أتقنَ الفرنسيةَ والإنكليزيةَ كأنَّهما لغتُهما الأصليّة، كنّا نطوفُ معهُم على المسارحِ ودُورِ السّينما ومعارضِ الفنِّ التّشكيلي فعوَّضَنَا ذلك عن عشراتِ الكتبِ التي لم نستطِع قراءتَها.
نسمعُ كثيرًا رِطَانًا يؤكِّدُ أنَّ زمنَ الكتابِ ولّى وراح، والحقيقة أنَّ الكتابَ في عُمْرِ البشريةِ تطوَّر من الكتابِ الطّيني إلى الكتابِ الورقي والبَرَدِي، حتَّى جاء اختراعُ الطِّباعةِ لينقلَنا إلى آفاق أكثرَ رحابة وتطورًا وأعظمَ فائدة، وأكثرها شيوعًا، ثم جاءنا الكتابُ الإلكتروني يسعى، وربّما ينتشرُ بيننا قريبًا الكتابُ المسموع، لم يعرف شكل الكتاب غير التطور على مرّ الزّمان، وبقيت قيمةُ الكتابِ مصونة، وظلَّت الكتابةُ في حياةِ البشرِ مؤثِّرة، بل زادَت أهمّيَتُها في إبرازِ صورِ النّهضةِ والرُّقيّ في حياةِ الشعوب.
كانَ المَعْرِضُ فرصةً رائعةً للسياحةِ في عالَمِ الكتبِ الرّحيب، حتى تأزَّمت صناعةُ الكتاب، وواجهَت العديدَ من الصّعوباتِ وفُرِضَتْ عليها الكثير من التحدِّيات، ليس أسوأَها تراجعُ معدَّلاتِ القراءة، وانشغالُ الناسِ بوسائلِ الترفيهِ الحديثةِ والتِّكنولوجيا، ولعلَّ أهمَّ هذه الصعوباتِ يتمثّلُ في التكلفةِ المرتفعةِ لإنتاجِ الكتبِ ما يرفع أسعارَها فوق طاقةِ عمومِ القرَّاء، فضلًا عن انتشارِ ظاهرةِ القرصنةِ والنَّشْرِ غير القانوني ما يقلِّلُ من أرباحِ الناشرين، ويؤثِّرُ في حقوقِ المؤلِّفين.
فَقَدَ الكتاب ميزتَه الرئيسيَّة في تقديم محتوى عميق ومدقَّق يتناول أفكار وقضايا وهموم وثقافة المجتمع
زاد عددُ المؤلِّفين، وتناقصَت أعدادُ القرّاء، وتفاقمَت أزمةُ الكتابِ وكَثُرَت صعوباتُه، وأثرَّت بشكل مباشر في جودةِ التّأليفِ، ونوعيةِ المؤلِّفين، وَدَفَعَ الكثيرَ من دُورِ النَّشر إلى أن تفرضَ تغييراتٍ تحريريةً كبيرةً على النُّصوص بما يتناسبُ مع رؤيتِها السّوقيّة، فتحوَّلَ الكتابُ (في الكثيرِ من الحالات) إلى مجلّةِ حائطٍ مدرسيّة، غالبًا ما تحتوي على معلوماتٍ غير مُدَقَّقَة، وأفكار عامة، وتجارب سطحية، فَقَدَ الكتابُ بسببِها ميزتَه الرئيسيَّة في تقديمِ محتوى عميقٍ ومدقَّقٍ ومفصّلٍ يتناولُ أفكارَ وقضايا وهمومَ وثقافةَ المجتمع.
هزالُ العناوينِ وتناقضاتُ القوانينِ وضغوطُ الرَّقابةِ وضعفُ التسويقِ وانتهاكُ الملكيةِ الفكريةِ بالإضافةِ إلى اتِّساعِ نطاقِ عملياتِ القرصنةِ للكُتُبِ والنُّصوصِ والوثائقِ الورقيةِ والإلكترونيةِ، كلّها مشكلات تهزُّ قيمةَ الكتابِ وتفسدُ مناخاتِ النّشر العربي.
في تغطيتِه لفاعلياتِ المعرضِ، ذكر الصّحافي المتخصِّصُ في متابعاتِ الكُتُبِ أنَّ واحدةً من أكبرِ دورِ النَّشر في مصر تعرضُ هذا العام عناوينَ ضعيفةً معظمُها روايات، وليس لها كتاب فكري أو تاريخي يستحقُّ الطلبَ من معرضِ القاهرةِ (!).
الخبرُ السيِّء أنّني ـ وكثيرون مثلي ـ لم نعد نرتادُ معرضَ الكتابِ الذي عشنا معه وفيه أجملَ فتراتِ حياتِنا الثقافيةِ والفكريةِ، الأسبابُ كثيرة، وبعضُها مزعجٌ ومؤلمٌ، وكثيرٌ منها يكشف عن حالِنا الثقافي المتردّي ككلِّ ما طال زماننا من مظاهرِ التخلّفِ والانهيارِ والتّردي.
حان وقتُ تدخُّل الحكومات العربية لتضعَ على رأس أولويّاتها دعم الكُتُب القَيِّمة ميسورة الأسعار
قَرَأْتُ قبل بضعةِ أيام على صفحةِ أستاذٍ جامعي مرموقٍ حَدِيثًا يَمْلَؤُهُ الحزنَ على الحالِ التي وصلنا إليها، أعلن أَنَّه لن يذهب إلى المعرضِ لشراءِ كُتُبٍ بأسعار باهظة، وقال: "دروس اِبني وَمُتَطَلَّبات بيتي أَهَمّ، نَسْأَلُ الله العونَ عليها"، وَتَسَاءَل: "هل ما زال في مصر ثقافة، هل فيها إنتاجٌ وإبداع؟".
قبل أن يقعَ المزيد من تدهورِ أحوالِ الكتابِ العربي، حان وقتُ تدخُّل الحكوماتِ العربيةِ لتضعَ على رأس أولويّاتها دعمَ الكُتُبِ القَيِّمَةِ ميسورةِ الأسعار بديلًا عن اتّساع سوقِ الكُتُبِ باهظة الثمن، قليلة القيمة.
لا مجال لإعادة الكتابِ إلى دورِه في صناعةِ الثقافة وتقدُّم المجتمعاتِ العربية غير مَدّ يَدِ اَلْعَوْنِ إلى تلك الصّناعةِ المهمَّةِ لِتَنْتَشِلَهَا من عبثِ تُجَّارِ الكتاب وضعفِ كُتَّابِه.
(خاص "عروبة 22")