لَيْسَتْ هذهِ الأسئلةُ وصفًا لمدينةٍ ما، بل مُساءلةً للفكرِ العربيّ في حدودِهِ الرّاهنةِ وقدرتهِ على إدراكِ ذاتهِ من داخلِ فضائِهِ المَدينيّ.
المَدينةُ كَمُخْتَبَرٍ لِلفِكْر
في لحظاتٍ مُحَدَّدَةٍ من التاريخِ، كانت المدينةُ العربيةُ وعاءً اخْتَبَرَ فيه الفكرُ طاقتَهُ على التَّجَدُّدِ، فـ"بغدادُ العبّاسيةُ" لم تكن عاصمةً سياسيةً فَحَسْب، بل فضاءً الْتَقَتْ فيه الفلسفةُ اليونانيةُ بالكلامِ الإسلاميّ، وتَصارَعَتِ المَذاهِبُ تحت سقفٍ واحدٍ فأطلقتْ دينامِيّاتٍ فلسفيّةً هائِلة.
الاستبداد يُجمّد الفكر ويُحوّل المدينة إلى فضاء مراقبة لا فضاء تأمُّل
أمّا "القاهرةُ الفاطميّةُ"، فقد تَحَوَّلْتْ بِفِعْلِ مؤسَّساتِها العلميةِ كالأَزْهَرِ ودار الحِكْمَةِ إلى مدينةٍ تُفَكِّرُ بذاتِها، حيث كانَ الاختلافُ مُحَرِّكًا للإبداعِ لا عائقًا لَه. لَكِنْ لماذا لا تنطلقُ اليومَ الأفكارُ من أسئلةِ الحاضرِ كما فَعَلَتْ بالأمْس؟.
كانَتِ المدينةُ، في أزمنةِ الازْدِهارِ، مختبرًا للفكرِ: السياسةُ فيها لمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ سلطةٍ، بل مُحرّكًا للسّؤال. أمّا اليومَ، فَإِنَّ الاستبدادَ لا يزالُ يُشَكِّلُ الذِّهْنِيَّةَ السياسيةَ العربيةَ، لكنّهُ لمْ يَعُدْ يُحرّكُ الفكرَ بل يُجَمِّدُهُ، ويُحَوِّلُ المدينةَ إلى فضاءِ مراقبةٍ لا إلى فضاءِ تأمُّل.
من العُمْرانِ إلى الوَعْي
في مُقَدِّمَةِ ابْنِ خَلْدونَ، يرتبطُ الفكرُ بازدهارِ العمرانِ، لأنّ التَمَدُّنَ يُهيّئُ الناسَ للفراغِ والتأمّلِ وصناعةِ العلومِ، غيرَ أنَّ هذا الازدهارَ يحملُ في ذاتهِ بذورَ الانهيارِ حينَ يتحوّلُ التَّرَفُ إلى وَهْنٍ للعصبيّةِ وانطفاءٍ للفِكْر.
أمّا جورْج زيمل (Georg Simmel) فَيَرى في مقالتهِ "المدينةُ والحياةُ الذّهنيةُ" أنّ التجربةَ المَدينِيَّةَ تُنتجُ وَعْيًا جديدًا قِوامهُ العَقْلانِيَّةُ والفَرْدانِيَّةُ، إذ يواجهُ الإنسانُ فيضًا من المؤثّراتِ فيلجأُ إلى العقلِ الباردِ كآليةِ دفاعٍ، وهذا ما يخلقُ نوعًا من التحوّلِ في الإحساسِ بالعالم: من الانتماءِ الجَماعِيّ إلى الاستقلالِ الفَرْدِيّ.
بينما يَعْتَبِرُ لويس ويرْثْ (Louis Wirth) أنَّ المدينةَ ليست مكانًا، بلْ نَمَطُ حياةٍ يُوَلِّدُ تمايزًا اجتماعيًا وتَخَصُّصًا معرفيًا دائمَ التجدُّدِ، وبهذا الفهمِ، تكونُ المدينةُ مُحرّكًا للفكرِ لأنّها تُبَدِّلُ في صميمِ العلاقاتِ الإنسانيةِ ذاتِها.
المَدينةُ المُلْتَبِسَةُ اليوم
تَعيشُ المدينةُ العربيةُ اليومَ بين شكلَيْن: فَهِيَ تسكنُ عمرانَ الحداثةِ، لكنَّ وعيَها لا يزالُ مشدودًا إلى قِيَمِ الجماعةِ المُغلقةِ، وهذا الانشطارُ يُنْتِجُ تَوَتُّرًا بين الهويةِ الفرديةِ والعصبيةِ الجماعيةِ، بين قيمِ الحَيِّ التقليديّ ومقتضياتِ الحياةِ المدنيةِ، وما يرافقُها في كلّ مرّةٍ من حُروبٍ أهليةٍ عندما تَضْعُفُ عصبيّةُ الدولةِ، ومن هذا التوتّرِ يولدُ الفكرُ، لا كنتاجِ رخاءٍ، بل كاستجابةٍ لأزمةٍ لم تُحلَّ بعدُ، نظرًا إلى عدمِ بناءِ أُسُسٍ للمواطَنةِ بَعْد.
وفي هذا الإطارِ، يُقدّمُ فالتِر بِنْيامينْ (Walter Benjamin) قراءةً مدهشةً للمدينةِ الحديثةِ باعتبارِها فضاءً يُوَلِّدُ الفكرَ ويُهَشِّمُهُ في آنٍ معًا، فهيَ مختبرُ الحداثةِ ومسرحُ الوَعْيِ المُمَزَّقِ بين الضوءِ والسلعةِ، بين الإنسانِ والبضاعةِ. المفكّرُ عِنْدَهُ هوَ الـ"فْلانورْ" (flâneur) الذي يتجوّلُ في شوارعِها باحثًا عن أثرِ المعنى وَسْطَ تدفّقِ الصورِ، غير أنَّ هذا التجوالَ يتعطّلُ في المدينةِ العربيةِ، لأنّ عمرانَها لم يتحوّلْ بعدُ إلى مجالٍ للتفكيرِ، بل بَقِيَ حقلًا للهَيْمَنَة.
المدينة العربية اليوم تكاد تخلو من المفكّرين القادرين على العيش في الفضاء العام من دون الارتهان إلى السلطة
فبينما تُفَكِّكُ مدينةُ بنيامين الفكرَ بفعل الرأسماليّةِ والاستهلاكِ، تُكَبِّلُهُ المدينةُ العربيةُ بِبُنْيَتِها السلطويةِ التي تُفْرِغُ العمرانَ من دلالتهِ الفكريةِ وتُحيلُهُ إلى إقامةٍ في ظلّ السلطةِ لا في ظلِّ الحرّية.
ابْنُ باجَّةَ وَالنَّوابِتُ: الفكرُ كَغُرْبَة
هُنا يمكنُ استدعاءُ ابنِ باجَّةَ في حديثِه عن النَّوابِتِ، أي أولئكَ الأفرادِ الذينَ يَنْبُتونَ في المدينةِ كما تنبتُ النباتاتُ في غيرِ موضعِها، ويُمارسونَ التَّفَكُّرَ خارجَ نَسَقِ الجماعَة. فالنّوابتُ عندَه هم علامةُ الحيويةِ العقليةِ داخلَ الفضاءِ المُغلقِ، لأنّهم يُفكرونَ حيث لا يُسمحُ للفكرِ بالظّهور.
وإذا كانَ ابنُ باجّة يرى أنَّ الفكرَ في المدينةِ يُمارِسُ غُربةً ضروريةً، فإنَّ المدينةَ العربيةَ اليومَ تكادُ تخلو من هذهِ النّوابتِ، أي من المفكّرينَ القادرينَ على العيشِ في الفضاءِ العامِّ من دون الارْتِهانِ إلى السلطةِ أو الجماعَة.
من مُخْتَبَرِ الفكرِ إِلى فَضاءِ الصَّمْت
لقد فقدَتِ المدينةُ العربيةُ قدرتَها على إنتاجِ المعنى المشتركِ، لأنّ الفكرَ نفسَهُ لم يَعُدْ مقيمًا فيها: يعيشُ أهلُها الحداثةَ عمرانًا لا فِكْرا.
البنية السلطوية تُحدد مَن يُفكّر وبأيّ لغة وفي أيّ فضاء
فَالإشْكالِيَّةُ لا تكمنُ في آلياتِ فهمِ المدينةِ فقط، بل في حدودِ الفكرِ العربيّ ذاتِهِ الذي لم يُبَلْوِرْ أدواتِهِ لقراءةِ الفضاءِ الذي يَسْكنُهُ، ولم يَكُنْ العائقُ ضعفًا في الذكاءِ، بل في البنيةِ السُّلْطَوِيَّةِ التي تُحَدِّدُ مَن يفكرُ وبأيِّ لغةٍ وفي أيِّ فضاء.
فالمدينةُ ليسَتْ مجرّدَ مسرحٍ تُمارَسُ فيه السلطةُ، بل مختبرٌ يُختبرُ فيه معنى الفكرِ نفسِه: هل يستطيعُ أن يخترقَ جدارَ القوةِ أم يبقى يدورُ في هوامشِها؟.
المدينةُ كَأُفُقٍ للحريةِ والمعنى
إعادةُ التفكيرِ في المدينةِ ليسَتْ تمرينًا عُمرانيًا، بل هي مشروعٌ لفهمِ الذّاتِ العربيةِ في تحوّلِها من الجماعةِ إلى المجتمعِ، من التضامنِ الآليّ إلى العيشِ المشترَكِ، فليسَتِ المدينةُ مكانًا للفكرِ فقط، بل فكرٌ في صورةِ مَكان. وَعِنْدَما يستعيدُ الفكرُ العربيّ هذا المعنى، سيستعيدُ المدينةَ، لا كأبراجٍ من الإِسْمَنْتِ، بلْ كأفقٍ للحرّيةِ والمعنى.
(خاص "عروبة 22")

