وَرَدَتِ الكلماتُ السابقةُ ــ تَرْجَمْناها بِتَصَرُّفٍ ــ في نصّ الفيلسوف الألماني المعاصِر، من أصلٍ كوريّ، "بْيونْغ ــ شول هان" (Byung-Chul Han - 66 عامًا) في مقدّمةِ كتابِهِ: "مُجْتَمَعُ الشفافيّةِ"؛ وظنّي أنّ النصَّ في ضوء ما ذكره حول: الامتثال القهري (Compulsive Conformity)؛ يفتحُ أفقًا للتفكير حول مصير الثُّنائِيّاتِ الإنسانيةِ: الوُجودِيَّةِ والقِيَمِيَّةِ والأَخْلاقِيّّةِ؛ التي تتجلّى في تعبيراتهِ المَشاعِرِيَّةِ والسّلوكيةِ وتعكسُ القدرةَ الإنسانيةَ على ممارسةِ المرء/المواطن لإرادته بِحُرِّيَّةٍ فِعْليًّا وعَمَلِيّا. وأقصد بتلك الثنائيّات / الأَضْدادِ: الخير والشر، الصدق والكذب، الفرح والحزن، الحنوّ والقسوة، الحب والكراهية... إلخ. كما يَطْرَحُ العديدُ من الأسئلةِ منها: هل ستتأثرُ هذه الثنائيّات، وما تداعياتُ تلك التأثيراتِ على الذّات الإنسانيةِ، وفي الأخير كيف ستكون الطبيعةُ العَلائِقِيَّةُ بين البشر؟.
تمَّ إخضاع الإنسان المعاصِر لعالَم جديد تُديره "الخَوارزميّات" يرفض منطق الثنائيّات المُتقابِلة
بدايةً، نؤكّدُ على أنّ تلك الثُنائيّاتِ ليست مُفْرَداتٍ لغويةً متناقضةًً، أو معانيَ دلاليةَ متقابلةَ مُنْبَتَةَ الصِّلَةِ عن الأجهزة المَشاعِريةِ والذهنيةِ للإنسان، وعمّا اكتسبَه من خبراتٍ وتجاربَ حياتيةٍ وراكمَه من تصوّراتٍ وأفكارٍ ومعلوماتٍ: مُضيئة ــ مُظْلِمَة، بنّاءة ــ مُدمِّرة، مُلْهِمَة ــ مُقَيَّدَة... إلخ، وإنّما هي منظومةٌ مُرَكَّبةٌ تَتَبَلْوَرُ بفعلِ الانخراطِ الإنسانيّ في شتّى أنواع العلاقات الاجتماعية التي عرفها الإنسان عبر التواصل مع: ذاته، والآخرين، والمجتمع، والعالم. بَيْدَ أنَّ العصر الرَّقْمِيّ بِتِقْنِيّاتِهِ المُتنوّعة وفي مقدّمتِها الذكاء الاصطناعي ــ وفق الكثير من المُلاحظات الدراسية ــ قد أصابَ منظومةَ الثنائيّاتِ ــ الأضداد الوجودية والقيمية والأخلاقية الإنسانية المُركّبة: بِمَحْمولاتِها القيمية، وتَجَلِّياتِها المشاعرية، وتَجْسيداتِها العَلائِقِيَّةِ؛ في الصميم. إذ تمَّ إخضاعُ الإنسانِ المعاصِرِ لعالَمٍ جديدٍ تُديرُه "الخَوارِزْمِيّاتُ" يرفضُ منطقَ الثنائيّاتِ المُتقابِلة، أساسًا، القيمية والمشاعرية التي تتشكّل وفق التجربة والمُعاناةِ والخِبْرَةِ الحيَّة. فالخوارزمياتُ، إذن، باتت تُشَكِّلُ الموقفَ الإنسانيّ في ضوءِ البيانات والحسابات والتوقّعات المُحتملة والتّفْضيلاتِ الرّقمية.
وكلّ العمليات المذكورة لا تُنْتِجُ الثنائياتِ المُتَضادَّةَ التي عرفها الإنسان في الأزمنة السابقة على العصر الرّقمي / زمن الذكاء الاصطناعي، إنّما تنتجُ مواقفَ يتمّ ترتيبُها ترتيبًا منطقيًّا وتصنيفُها تصنيفًا نوعيًّا ويتمّ هذا الترتيب وذاك التصنيف في ضوء نِسَبٍ أو درجاتٍ تَعْكِسُ مدى الفائدة والعائد لكلّ موقف وانعكاساتِها المُحتملةِ على الإنسان. ما يعني تأسيسًا جديدًا لعالمٍ تتشكّل فيه المواقفُ الإنسانية الرّقمية وفق حساباتٍ رقميةٍ خالصةٍ حيث لا مجالَ للثُّنائِيّاتِ الإنسانية التي تتشكّل كَمُحَصِّلَةٍ للتفاعلات النفسية والعصبية والذهنية الإنسانية.
زمن الذكاء الاصطناعيّ يمثّل انقلابًا في المسار البشريّ
وبالنتيجةِ، وحسب ما يقول "بيونغ ــ تشول هان": "يغيبُ التوازنُ النّفسي ــ العصبي ـ الذهني الذي يتبلورُ من التَّضَادِّ القِيَمِيّ ــ المَشاعِري، ومن ثمّ يُصبح الإنسان في زمن الذكاء الاصطناعي كائنًا شفّافًا في السياق الخوارزمي حيث يتمّ توجيهُ وضبطُ سلوكه ومواقفه وردود أفعاله انطلاقًا من البيانات والحسابات والاحتمالات". بمعنًى آخر، فَإِنَّ الذكاء الاصطناعي يقوم بإعادة صياغةٍ تامّةٍ لمنظومة التفاعلات الإنسانية في اشتباكاتها المُختلفة. فَتَحُلُّ ما يُمكن أن نُطلقَ عليه "العقلانيةُ الخوارزميةُ الأُحادِيّةُ الصارمةُ" الحسابيةُ بالأساس، حسب أحد الباحثين، محلّ العملية الإنسانية المُركّبة الحيّة، والحسّية، والمعنوية، والوجدانية، والروحيّة.
هكذا تَفْقِدُ الثنائيات معناها الإنساني لصالح المُفاضلاتِ الحسابية. ما يعني أنّ الإنسانيةَ باتت تواجهُ واقعًا جديدًا مُغايرًا، تخضعُ فيه المشاعرُ والاختياراتُ والتوجّهاتُ إلى عملياتٍ حسابيةٍ غايةً في الدقّة، لا تقرّ قانون الثنائيات المتضادّة المُطلقة، ومنطقَ الأبيض ونقيضِه الأسود، وإنّما تستبدلُهُ بمنطقٍ أُحادي نسبيّ يعرضُ البدائلَ الموقفيّةَ المُتاحةَ للإنسان والقابلةُ للتشغيل ــ بلغةِ التقنياتِ الرقمية ــ في الواقع. أي أصبحت المُعالجةُ الرّقميةُ هي التي تقومُ بتحديدِ الموقفِ / الشعورِ الإنسانيِّ لا العملياتُ الحيويّةُ المُركّبةُ الداخليةُ للإنسان. على الرَّغمِ من أنّ المُعالجةَ الرّقميةَ، حتى الآن، لا تستطيعُ الشعورَ بالفرحِ أو الحزنِ أو ما شابَهَ من مَشاعِرَ، أو فهمِ قيمةِ الاختيارِ الأخلاقيِّ للمواقفِ لا النَّفْعيّ أو العمليّ.
هل يتنازل الإنسان عن إنسانيّتِه لصالح تَغَوُّل الأَتْمَتَة؟
وبعدُ، من الواضح تمامًا أنَّ زمنَ الذكاءِ الاصطناعيِّ يُمثّلُ انقلابًا في المسارِ البشريِّ وتحوّلًا جذريًا للتجربة الإنسانية التاريخية، وأنّ الثنائيات الإنسانية وليدة التّفاعلات النفسية والوجدانية والمعرفيّة والذهنية المُركّبة قد أُخْضِعَتْ ــ بالتَّمامِ ــ لِهَيْمَنَةِ الخوارزميّاتِ كي تُحدّدَ وتُوَجِّهَ الإنسان فيما يتبنّاه من مواقف ومشاعر. أي أنّ الذكاءَ الاصطناعيّ بخوارزميّاتِه البيانيةِ والحسابيةِ قد أصبح لا يُزاحِمُ التجربةَ الإنسانيةَ بما اختبرَتْهُ من اختباراتٍ مُعاشَةٍ ــ حيّةٍ من لحمٍ ودمٍ ــ فقط، بل صار يفوقها. (هكذا تُضافُ إشكاليةٌ جديدةٌ إلى مجموعة الإشكاليّات الإنسانية الوجوديّة والمصيرية التي أَثَرْناها حول زمن الذكاء الاصطناعي؛ وفي هذا المقامِ راجع مقالاتنا في "عروبة 22": الذكاء الاصطناعي يستنفر العقل الماركسي، الذكاء الاصطناعي والعقل الديني، الذكاء الاصطناعي والشعور الإنساني، هل يقضي الذكاء الاصطناعي على الفقر أم يضاعف الفقراء؟، العدالة الرقمية زمن الذكاء الاصطناعي، الإبداع الإنساني زمن الذكاء الاصطناعي).
الخُلاصةُ، لم يعدْ الإنسان في الزمنِ الرّقميِّ مُتَفَرِّدًا ــ مُنْفَرِدًا بتبنّي الموقفِ الأخلاقيِّ أو الشعوريِّ وِفْقَ ما راكَمَ من وعيٍ وثقافةٍ تمّ اخْتِبارُهُما من خلال العلاقاتِ الإنسانيةِ الحيّةِ وانطلاقًا من إرادتِهِ الحرّة، فلقد أصبح هناكَ مَن يُقدّمُ له الخلاصةَ بِضَغْطَةِ زِرٍّ في ضوء حساباتٍ دقيقةٍ صارمةٍ بعيدًا عن أي ضغوطاتٍ نفسيةٍ خوفًا من الخطأ أو سوءِ الاختيار. ومن ثمّ هل يتنازلُ الإنسانُ عن إنسانيّتِهِ لصالحِ تَغَوُّلِ الأَتْمَتَةِ التي تفتقد ــ حتى اللحظة ــ إدراكَ التضادّ وفهمَ قيمةِ ما يتولُّد عنه من قيمةٍ ومعنًى لصالحِ التوليدِ الذكيِّ للبدائل؟. وهل هناك فرصةٌ لتحقيقِ التوازنِ بين غنى التجربةِ الإنسانيةِ الحيّةِ بثُنائيّاتِها المُتَضادَّةِ وبين خوارزميّةِ الذكاءِ الاصطناعي؟.
(خاص "عروبة 22")

