تقدير موقف

"ملوكُ الطّوائفِ" الجُدُد: حين يُعيدُ العربُ إنتاجَ مأساةِ الأندلس!

التاريخُ لا يُعيد نفسَه بِحَذافيرِهِ، لكنّه يَتَشابَهُ في أنْماطِهِ وتكرار عِلَلِه. وإذا نظرنا إلى واقع العرب اليوم، نجدُ أنفسَنا أمامَ مشهدٍ يكاد يكون نُسْخَةً حديثةً من حِقْبَةِ ملوك الطوائف في الأندلس؛ حيث تَفَرَّقَ الجَمْعُ، وتشتّتت الأمّة، وَغَلَبَتِ المصالح الضيّقة على المصيرِ العامّ. وفي كلا الحالتَيْنِ، كانت النتيجةُ واحدةً: الضَّعْفُ أمام العدو، والاسْتِباحَةُ من القوى الطّامِعَة.

بعد سقوط الدولةِ الأمويةِ في الأندلسِ (422هـ/ 1031م)، انْقَسَمَتِ البلادُ إلى دوَيْلاتٍ صغيرةٍ، يحكمُها ملوكُ طوائفَ يتنافسون على النفوذِ والمالِ والجاه. بدل أن يَتَوَحَّدوا لمواجهةِ الخطرِ القادمِ من الشمالِ، تحوّلوا إلى أعداءٍ لبعضهم البعض، يستعينون بالعدوِّ نفسِه ضدّ إِخْوانِهِم. فقدّموا للأعداءِ مفاتيحَ الأندلسِ على طبقٍ من ذهبٍ، بعدما انْشَغَلوا بِصِراعاتِهِم الدّاخلية.

إذا ألقَيْنا نظرةً متأنّيةً على حالِ العربِ اليوم، سنرى مشهدًا يكاد يكون صورةً طِبْقَ الأصلِ من زمن ملوك الطوائف في الأندلس، وإنْ اختلفتِ الأدوات وتغيّرتِ الأسماء. فالتمزّقُ السياسيّ والجغرافيّ باتَ السِّمَةَ الغالبةَ على الأمّة العربية؛ دُوَلٌ متناحرةٌ، مَحاوِرُ متصارعةٌ، وتحالفاتٌ تَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ المَصالِح. نرى حدودًا تُغلقُ في وجه الأخ لأسبابٍ واهيةٍ، بينما تُفتحُ على مِصْراعَيْها أمام القوى الأجنبية، سواءٌ في صورةِ قواعدَ عسكريةٍ أو مصالحَ اقتصاديةٍ أو تحالفاتٍ استراتيجيةٍ مشروطة. يكفي أن نتأمّل واقعَ بَعْضِ الدُّوَلِ العربيةِ، حيث تُبنى الجدرانُ الفاصلةُ بين شعوبٍ مُتجاورةٍ في التاريخ والدّين، بينما تُمْنَحُ التسهيلاتُ للقوى الكبرى القادمة من آلافِ الأميال.

الأمّة العربية لم تعُد تملك زمام خَيْراتها التي كان من المفترض أن تجعلها في مصاف القوى العظمى

وكما اسْتَنْجَدَ ملوكُ الطوائفِ في الأندلس بفرسانِ قَشْتالةَ لمواجهةِ إخوانِهِم، نجد اليوم أنّ بعضَ الأنظمةِ العربيةِ تستعينُ بالقُوى العُظمى، سواء الولايات المتحدة أو روسيا أو حتّى إسرائيل، لتثبيتِ سلطتِها أو لضربِ خصومِها الإِقْليمِيّين. الحرب في اليمنِ مثالٌ واضحٌ: تحالفاتٌ تتنازعُ أرضًا عربيةً بأيدٍ عربيةٍ، لكنّ القرارَ الفعليّ مرهونٌ بواشنطن وطهران أكثرَ ممّا هو بيدِ أبناء اليمن أنفسِهم. وفي ليبيا، تحوّلت الساحةُ إلى ساحة صراعٍ بالوِكالةِ، حيث تُسْتَدعى قوى خارجية لإسنادِ هذا الطرف أو ذاك، تَمامًا كما فَعَلَ ملوك الطوائف الذين بَاعوا استقلالَهم لقاء نصرٍ عابر.

أمّا القرارُ السياديّ، فقد صار في الكثيرِ من الدولِ رهينةً للمساعداتِ الأجنبيّةِ، والمِنَحِ، والقُروضِ المشروطة. فالسّلاح لا يُشْتَرى إلّا بموافقة الدولِ المُصَنِّعَةِ، وأيُّ دولةٍ تُحاولُ أن تتّخذَ قرارًا خارجَ هوى القوى الكبرى تُعاقَبُ بالحصارِ أو التّهميش. الاقتصادُ بدورِه أصبحَ خاضعًا لإمْلاءاتِ "صندوق النقد الدولي" و"البنك الدولي"، وكأنّ الأمّةَ العربيةَ لم تَعُدْ تملكُ زمام قُوتِهَا ولا خَيْراتِها التي كان من المفترضِ أن تجعلها في مصاف القوى العظمى.

العدوّ لا يدخل إلا من بوّابة الانقسام الداخلي

وفي خِضَمِّ هذه الأزماتِ، نجدُ مشهدًا آخر لا يَقِلُّ خطورةً: الانصرافُ إلى اللَّهْوِ والتَّرَفِ، بينما تتهاوى القضايا الكبرى.

ففلسطينُ التي تُمَثِّلُ قَلْبَ القضية العربية تُرِكَتْ لتواجهَ مصيرها وحيدةً، والعراقُ ما زال يَئِنُّ من الاحتلالِ وتبعاتِهِ، وسوريا تُمزّقها الحروبُ الداخليةُ والتدخّلاتُ الأجنبيةُ، واليمن غارقٌ في مأساةٍ إنسانيةٍ غير مسبوقة. ومع ذلك، تنشغلُ الكثير من الحكوماتِ العربيةِ بمشاريعَ استعراضيةٍ، واحتفالاتٍ ضخمةٍ، وَتَنافُسٍ على استضافة الفعّالياتِ العالميةِ، وكأنّ الأمّة تعيش في رخاءٍ واستقرار!

إِنَّ هذا المشهدَ ليسَ إلّا تكرارًا مأساويًا لحِقْبَةِ ملوك الطوائف، حينَ قُدِّمَتْ المصلحةُ الخاصّةُ على المصلحة العامة، وغُلِّبَ الكرسيّ على الكرامةِ، وأُعْطِيَ الغريب مفاتيحَ الدّارِ، بينما انشغل أصحابُها بالخِصامِ واللّهْو. الفارقُ الوحيدُ أنّ الزمن تَغَيَّرَ، لكنَّ العِبْرَةَ لم تُسْتَخْلَصْ بعد.

وَجْهُ الشَّبَهِ الأشدُّ خُطورَة

أخطرُ ما يَجْمَعُ بين الحِقْبَتَيْنِ هو أنّ العدوَّ الحقيقيّ لا يَدخل إلّا من بوّابة الانقسام الدّاخِلي. في الأندلس، لم تَسْتَطِعِ الممالكُ المسيحيّةُ أن تتوسّعَ إلّا حين استغلّت صراعاتِ الطوائف. واليوم، القوى الكبرى لا تُسيطرُ على المنطقةِ إلّا لأنّها وجدت أُمَّةً مُشَرْذَمَةً، كلُّ دولةٍ تقاتلُ أختَها، وكلُّ حاكمٍ يطعنُ ظَهْرَ جارهِ خوفًا على عرشِه.

نملك فرصةً لتغيير المسار قبل أن نلقى مصيرًا شبيهًا بسقوط غرناطة

قد يقالُ إنّ الفارقَ أنَّ الأندلسَ كانت ساحةً محدودةً بينما العالمُ العربيّ يمتدُّ من المحيطِ إلى الخَليج. لكنَّ الواقعَ أنّ اتِّساعَ الرُّقْعَةِ الجغرافيةِ لا يحمي، بل يزيدُ الطامعين طمعًا، ما لم تكنْ هناك وحدةُ قرارٍ ورؤية. الفارقُ الآخرُ أنّ أدواتِ السيطرة اليوم أكثرَ نعومةً: قروضٌٌ، شركاتٌ، قواعدُ عسكريةٌ، تحالفاتٌ إعلامية... لكنّها في الجَوْهَرِ تُؤَدِّي النتيجةَ نفسَها: السيطرةُ من الخارج، والانقسام في الداخل.

هل يُعيدُ العربُ كتابةَ النّهاية؟

حين نقرأُ تاريخَ ملوكِ الطوائفِ، نشعرُ وكأنّنا نقرأُ سطرًا من صُحُفِ اليوم. وكأنَّ الأمّةَ العربيةَ لم تتعلَّمْ أنّ التشرذمَ طريقٌ إلى الهزيمةِ، وأنَّ الاسْتِقْواءَ بالغريب لا يَجْلِبُ إلّا الدَّمار. إنَّ الفارقَ الوحيدَ أنّنا اليوم نملك فرصةً لتغيير المسارِ قبل أن نَلْقَى مصيرًا شبيهًا بسقوطِ غرناطة. لكنَّ السؤالَ: هل نملكُ الإرادةَ؟ أم أنّنا نسيرُ مُطْمَئِّنّينَ نحو إعادةِ كتابةِ المأساةِ بحروفٍ جديدة؟!.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن