الثّورة الصّامتة: "جيل Z" العربي على الخريطة الثقافيّة العالميّة!

يُعتبرُ "رولاند إنغلهارت" أحدُ أهمّ الباحثين الذين ناقشوا الثقافةَ السياسيّةَ عبر الوطنيّة، وقادَ إلى تطويرِ استطلاعاتِ الرّأي وتأسيسِ مسوحاتِ القِيَمِ العالميّة (WVS)، والتي تحوّلت إلى قاعدةِ بياناتٍ ضخمةٍ سمحَت برَصْدِ التغيُّر الاجتماعي والثّقافي لأكثر من 100 مجتمعٍ حول العالم.

الثّورة الصّامتة:

في كتابِه "الثّورة الصامتة (1977)"، يعتقدُ إنغلهارت أنَّ شروطَ الوجودِ الاجتماعي والاقتصادي عاملٌ مؤثرٌ في قيمِ الأجيالِ ارتباطًا بشروطِ الحياةِ والأمنِ الوجودي، وإذا تغيّرت هذه الشروط، فستتغيّر القيمُ أيضًا ولكن في تأخّرٍ طويلٍ بعد تجربةِ استراتيجيّات وظروفِ الحياةِ الجديدة.

يحدثُ التغيّر في القيمةِ بين الأجيال عندما تنمو الأجيالُ الشابّة في ظلِّ ظروفٍ تختلفُ عن تلك التي شكَّلت الأجيال السابقة، بحيث تكون قيمُ المجتمعِ بأكملهِ تتغيّر تدريجيًّا من خلال الاستبدالِ بين الأجيال. مثلًا حدث التحوّلُ في الأجيالِ الغربيّةِ من القيمِ الماديّة (الرّخاء والأمن الوجودي والاستقرار) إلى القيَمِ ما بعد الماديّةِ (التّعبير عن الذّات والرّضى الإجمالي والسّعادة)، التي رافقَت دولةَ الرّعايةِ الاجتماعيةِ والرّخاءِ الاقتصادي الذي جلبتهُ أوضاعُ ما بعد الحربين العالميّتين.

القِيَم التحرّريّة تُوفِّر رأسَ المال الاجتماعي وتُنشِّط المجتمعَ المدني وتُساعد على منع الحركات البعيدة عن الدّيموقراطية

راهنًا يُعتبرُ الشبابُ في العالم، وبخاصةٍ في المجتمعاتِ العربيةِ الأكثر إقبالًا على شروطِ الحياةِ الوجوديّةِ وأنماطِ التّفكيرِ الجديدة، الموسومة بالانفتاحِ المتزايدِ على عوالم الميتافيرس والعوالم الرّقمية والافتراضيّة، وقد أثبتوا في غيرِ مرحلةٍ قدرتَهم على تكييفِ المستجدِّ التّكنولوجي مع شروطِ وجودِهم ووعيِهم الاجتماعي - تبعًا لمستواهم العِلمي والثّقافي والاقتصادي - ومن ثمَّ تجريب الحياة الرّقمية على الإنترنت لحدِّ الانغماسِ الذي قادَ في الكثير من الحالاتِ إلى تلاشي الحدودِ بين المواقعِ الطبيعيةِ الجُغرافيةِ لهؤلاء الشباب، والتجربةِ الافتراضيةِ على الإنترنت، والتي تحوّلت تدريجيًّا إلى حياةٍ واقعيةٍ لهؤلاء الشّباب، كما لو أنّها بديلٌ أو نسخةٌ مطابقةٌ للعالم المادّي/الموقِعي، تعملُ على استقبالِ وتصريفِ اهتماماتِهم وتفاعلاتِهم مثل التّعبيرِ عن الآراءِ ومناقشتِها أو التَّغَالُبِ لفرضِها، إضافةً إلى الترفيهِ والعملِ والتّواصلِ والشّراءِ وإنشاءِ العلاقاتِ والصداقاتِ وغيرِها.

في سياقِ ثورة المجتمع المدني الذي قاده بعضُ المجتمعاتِ العربية، بتوصيةٍ من الصّناديق والهيئاتِ الدوليّةِ مع بداية التسعينيّات، والذي قاد إلى مجموعةٍ من المشاريع التنمويّةِ والاهتمامِ بالجوانب البشريّة في التّنمية، عملًا بأطروحةِ "أمارتيا صن" حول أهمّيةِ الرّأسمالِ البشري في التنميّة، إضافةً إلى مشاريع الخوْصصة التي نهجها بعض الدّول وحققت نوعًا من الوفرةِ والرّخاء الاقتصادي مع بداية الألفيّة الثالثة، وتَحوُّلِ عددٍ من الدّولِ النّفطيّةِ نحو نموذجِ دولة الرّفاهِ الاجتماعي - على الرّغم من الاضطراباتِ السياسيةِ التي مرَّت بها بعض الدّول العربيّة آنذاك - كلّ ذلك قادَ إلى توجُّهِ جيل الألفيّة العربي إلى الانشطارِ حول ذاتِه - ولو على نحوٍ مُتباطِئ - إذ توجَّهت كتلةٌ منه نحو القيمِ ما بعدِ الماديّة، والتمكين البشري الذي رفع الطّلبَ على القيمِ التحرُّريّةِ وممارساتِها، خصوصًا على المستوى القانوني - المؤسَّسي، ومنهُ تحوَّلت أولويّةُ شبابِ الرّبيعِ العربي نحو قيمِ التحرّرِ والتّعبير عن الذات، مع زيادة إحساسِهم بالفاعليّةِ الفرديةِ المسنودةِ بالانفتاحِ المتزايِدِ على الشبكات الاجتماعيّة، وظهرَ ذلك من خلالِ الشعاراتِ التي رفعوها في مسيراتِهم الاحتجاجيّةِ (الحريّة، العدالة والدّيموقراطية).

على هذا النّحو، توفِّرُ القيمُ التحرّريّة - بحسب إنغلهارت - رأسَ المال الاجتماعي الذي يُنَشِّطُ المجتمعاتِ ويجعلُ الجماهيرَ أكثر تعبيرًا عن الذّات، كما تُنشِّطُ المجتمعَ المدني وتساعدُ على منعِ الحركاتِ البعيدةِ عن الدّيموقراطية، وتضعُ أصحابَ السّلطةِ تحت ضغوطِ الحفاظِ على الدّيموقراطيةِ أو ترسيخِها، في حين بقيت كتلةٌ أخرى من هذا الجيل متمركزةً حول قيمِ البقاءِ والأمن الوجودي قِيَمًا وعقيدةً، بخاصة من الجيلِ الذي ترعرعَ في ظروفِ الخوفِ وغيابِ الأمنِ والاستقرارِ أو محدودي التّعليم والثقافة.

من خلال عملية تراكم أجيال Z واتّساع قواعدها ونفوذها في المجتمعات العربيّة تصبحُ النُّخبةُ منهم هي المُهيمنة

إضافةً إلى ذلك، فإنّ الاضطراباتِ السياسيةِ والثوراتِ المُضادّةِ، التي عرفتْها المجتمعاتُ العربيّةُ التي شهدَت ثوراتٍ وانتفاضات، مع زيادةِ منسوبِ الاضطراباتِ الاقتصاديةِ التي بدأت مع العام 2008 وازدادت تفاقمًا مع الانكماشِ الاقتصادي الذي رافق تدابيرَ الحجْرِ الصحّي إبّان جائحةِ كورونا، كلّ ذلك قادَ إلى تحوّلٍ انعكاسي في قيمِ جيل شبابِ الرّبيع العربي، حيث تراجَعَت شرائحُ منه بدورِها، من قيمِ التّعبيرِ عن الذاتِ إلى قيمِ البقاء، مع انخفاضِ الشعورِ بالفاعليَّة الفرديَّة. هذا وقد أظهرَت الخريطةُ الثقافيّةُ العالميّةُ، حسب مسْحِ القيمِ العالمي للعام 2023، وجودَ اختلافاتٍ واضحة في القيمةِ بين المجتمعاتِ حولَ العالم، إذ يوجد أقوى تركيز على القيمِ التقليديّةِ وقيمِ البقاءِ في المجتمعات الإسلاميةِ، في الشّرق الأوسط - باعتبارها - أي القِيم - صمّام الأمانِ الاجتماعي والنّفسي في ظلِّ الظروفِ الاقتصاديّةِ والسياسيّةِ والاجتماعيّةِ التي تعيشها هذه المجتمعات، وعلى النَّقيضِ من ذلك تمَّ العثورُ على أقوى تركيزٍ على القيمِ العلمانيّةِ العقلانيّةِ وقيمِ التّعبيرِ عن الذّاتِ في المجتمعاتِ البروتستانتيّةِ شمال أوروبّا، ذاتِ التّاريخ الطّويل في السياساتِ الاجتماعيةِ الدّيموقراطية أو الاشتراكيّة، وهي البلدانُ عينُها التي توجّهَت فيها شرائحُ واسعةٌ من الشباب نحو دراسةِ الفلسفةِ والعلومِ في الجامعات.

استشرافيًّا، من خلال عملية استبدالِ الأجيال وتراكم أجيال Z (ولو عبر فتراتٍ زمنيّةٍ طويلةٍ)، واتّساعِ قواعدِها ونفوذِها في المجتمعاتِ العربيّة، تصبحُ النُّخبةُ منهم (ذات التّعليم العالي) المتحكمةُ في الحياةِ الرَّقمية هي المهيمنةَ وذات النفوذِ الفاعلِ في الحياةِ الموقعيّة. وهؤلاء، بفضلِ ما توفِّرُه لهم البيئاتُ التفاعليّة من إمكاناتِ ولوجٍ وظهورٍ وحضورٍ، سيتّخذون تدريجيًّا من قيمِ البقاءِ وحريّةِ التفكيرِ أمرًا مفروغًا منه، مما سيجعلُ قيمَ التعبيرِ عن الذاتِ تقدّرُ بشكلٍ كبيرٍ، ولا تقبلُ التفاوضَ أو المراجعَة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن