تأتي تطلّعات تونس لاقتحامِ سوقِ هذا الوقود في ظلّ سباقٍ محمومٍ بين الدّولِ المتقدِّمةِ وبخاصَّة الدّول الأوروبيّة للاستثمارِ بقوّةٍ في الطّاقاتِ المتجدِّدَة وفي الهيدروجين الأخضَر، وعينُها على شمالِ أفريقيا القريبةِ جغرافيًّا منها والتي تحتوي على مخزونٍ كبيرٍ لإنتاجِ الكهرباءِ من الطّاقات المتجدِّدَة يمكنُ استغلالُه لإنتاجِ الهيدروجين الأخضَر. ولكنَّ هذا التوجُّهَ الذي تمضي فيه تونس بقوّةٍ بدأ يطرحُ مؤخَّرا جملةً من المخاوفِ حول تبعاتِ هذا الرِّهان الكبير وحول النّوايا الحقيقيّة لأوروبّا من وراءِ ركضِها وراءَ ثرواتِ الدّول الأفريقية.
على هامش النّسخة 23 لمؤتمر الأمم المتّحدة لتغيّر المُناخ في مدينة بون الألمانية عام 2021، التقى 18 من قادةِ مختلفِ قطاعاتِ الصّناعةِ لإطلاقِ رؤيةٍ عالميةٍ حولَ دورِ الهيدروجين. وأوضحوا حينَها أنَّ الهيدروجين ليس فقط ركيزةً أساسيّةً في عمليةِ تحوّلِ الطّاقةِ، بل لديه أيضًا القدرة على تحقيق 2.5 تريليون دولار من الأعمال التّجارية وتوفير أكثر من 30 مليون وظيفة بحلولِ عام 2050. ومنذ ذلك الحين، انطلقَ سباقٌ كبيرٌ بين دول العالمِ من أجلِ ضمانِ موطئ قدمٍ في هذا السّوق الجديد.
وتفاعلًا مع هذا الوضعِ الجديدِ، أعلنت تونس في أوائل عام 2022 أنّها أطلقت خطةً لتطويرِ استراتيجيّتها الوطنيّة للهيدروجين الأخضَر ذكرت فيها أنّ هذا الوقودَ الأخضَر موجود للتّصدير أساسًا.
وفي سنة 2024، وقّعت تونس عدّة اتفاقياتٍ لإنتاج الهيدروجين الأخضَر مع تسع شركات من ثماني دول أوروبيّة، من بينها مجمّع الشركات البريطانية المالطية "تونور"، والنروجية "أكر هوريزونز"، والنمساوية "فاربوند"، ومجمّع الشركات الفرنسية والنمساوية "توتال للطّاقات".
وتطمح تونس من خلال إبرامِ هذه الاتفاقيّاتِ إلى تنفيذِ الاستراتيجيّةِ الوطنيةِ للهيدروجين الأخضَر ومشتقاتِه في أفق سنة 2050، التي أعلنت عنها وزارة الصّناعة والطّاقة والمناجم التونسيّة في مايو/أيار الماضي، وتوقَّعَتْ فيها أن تصل تونس لإنتاج حوالى 8.3 ملايين طن من الهيدروجين الاخضَر بحلول عام 2050، منها 6 ملايين طن موجّهة للتصدير لأوروبا وأكثر من 2 مليون طن للسّوق المحليةِ والتصديرِ في شكل مشتقّات.
يمكنُ انتاجُ وقودِ الهيدروجين الأخضَر من الغازِ الطبيعي أو الكتلةِ الحيويّةِ أو الطّاقةِ النوويةِ، عندما تنفصلُ جزَيْئات الهيدروجين عن الماءِ باستخدامِ كهرباء مستمدّة من مصادر طاقة متجدّدة مثل الطّاقة الشمسيّة وطاقة الرّياح التي لا تنتجُ انبعاثاتٍ كربونيّة. وتفوقُ تكلفةُ انتاجِه أربعة أضعاف تكاليف إنتاج "الهيدروجين الرّمادي"، الذي ما زال يسيْطر على أكثر من 90 بالمئة من إنتاج الطّاقة في العالم، ويُعَدُّ المتسبِّب الرّئيسي في الاحتباسِِ الحراري.
وأثارت هذه الاتفاقياتُ جدلًا كبيرًا في تونس، وخصوصًا في صفوفِ الخبراء الذين أعربوا عن مخاوفِهم بشأنِ الكلفةِ البيئيّةِ والمائيّةِ لهذا المشروع، ورأوا أنّ ما تمَّ إبرامُه من اتفاقياتٍ يعزِّزُ استغلالَ الدولِ المتقدّمةِ لثرواتِ الدّول الناميَة ويكرّس شكلًا جديدًا من الاستعمار.
ويُبَرِّرُ الخبراءُ مخاوفَهم بكلفةِ الإنتاجِ العاليةِ واستهلاكِ هذه التقنيّة لمواردَ مائيةٍ هائلةٍ (إنتاج 1 كلغ من الهيدروجين يحتاج إلى ما بين 18 و24 كلغ من الماء)، في وقتٍ تعاني فيه تونس من جفافٍ كبيرٍ، وحتّى اللّجوء لتحليةِ مياهِ البحرِ له تكاليفُه على أكثر من صعيد. ويؤكِّدُ منتدى الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة، أنَّ الاعتمادَ على تحليةِ مياهِ البحرِ لإنتاج الهيدروجين الأخضَر يمكنُ أن يشكِّلَ تهديدًا للبيئةِ إذا لم يتم إدارتُه بشكلٍ صحيحٍ، إذ إنَّ تصريفَ المحلولِ المِلحي المركّز والنفاياتِ الكيميائيةِ في البحر يمكن أن يؤثّرَ سلبًا في الحياةِ البحريّةِ والمنظومةِ البيئيّةِ، عدا أنَّ تحليةَ مياهِ البحر لدواعي تعزيزِ قطاعَيْ مياهِ الشربِ والريّ تُعتبرُ أكثر إلحاحًا في ظلّ أزمةِ المياه التي تُلْقِي بظلالِها على العديدِ من الجهات.
من جهةٍ أخرى، ستحتاج تونس لاستعمالِ أراضٍ شاسعة من أجل هذا المشروع تقدّرُ بـ500 ألف هكتار من الأراضي في الجنوب التّونسي، أي ما يعادلُ مساحة تونس الكبرى مرّتين لصالح هذه المشاريع (الأراضي الاشتراكية، أو الأراضي المملوكة من طرف الدولة) التي ستقدَّمُ بأبخسِ الأثمانِ للمستثمرين من أجل توفيرِ حاجات الطّاقة لأوروبّا. أي أنّ تونس ستوفِّرُ المواردَ الطبيعيةَ كالأرضِ والمياهِ بأقلّ الأثمانِ وتتحمّل التبعاتِ البيئيةِ والاجتماعيةِ مقابل أن تنتعشَ أوروبّا.
إذ سَتُمَكِّنُ هذه المشاريعُ أوروبّا من فتحِ أسواق جديدة للصناعات الأوروبيّة لأنّ التجهيزاتِ اللازمةَ لتنفيذِها على غرارِ التِّكنولوجيا (المحلِّلات الكهربائية والألواح الشمسية...) سيتمُّ تصنيعُها من طرفِها، وبالتّالي ستحتفظُ أوروبّا كما اعتادت بالفوائدِ الصناعيّة، من فرصِ عملٍ ومكاسبَ اقتصاديّة. هذا الوضعُ سيعزِّزُ التقسيمَ التقليدي للعملِ على مستوى العالم والذي توفِّرُ بمقتضاه الدولُ الناميَةُ الموادَّ الخامّ والعمالةَ الرّخيصةَ فيما تصدِّرُ الدّولُ المتقدمةُ تكنولوجيّات ذات قيمة مضافة عالية، وبالتّالي استمرار التبعيةِ واستعادة لآلياتِ الاستعمارِ في استغلالِ ثرواتِ دول الجنوبِ لصالح دول الشمال.
علمًا أنّ الإتحاد الأوروبّي يسعى إلى الاستثمارِ بقوّةٍ في الهيدروجين الأخضَر أساسًا للحدِّ من تبعيّتِهِ للغاز الرّوسي، والتخفيضِ من انبعاثاتِه الكربونيةٍ بنسبة 55 بالمئة بحلول سنة 2030 وتحقيقِ الحيادِ الكربوني بحلول سنة 2050. وتحتكرُ أوروبّا 30 بالمئة من مشاريع الهيدروجين الأخضَر المبرمجة في العالم.
الباحثُ في المعهدِ العابرِ للقوميّات صابر عمّار، يقول لـ"عروبة 22" إنَّ "إنتاجَ الهيدروجين الأخضَر يستنزفُ كمياتٍ كبيرةٍ من المياه، حيث سيتم استعمال 250 مليون متر مكعب، أي ما يعادِل استهلاكَ 5 ملايين مواطن تونسي، في وقتٍ يعاني فيه التونسيّون من أزمةِ مياهٍ حقيقيةٍ تستفحلُ من سنةٍ إلى أخرى، ما يتطلّبُ أن توجِّهَ الدولةُ مسألةَ تحليةِ المياه في البدايةِ لمعالجةِ حاجةِ مواطنيها. كما أنَّ هذا المشروع لن يساهمَ في تحقيقِ التنميةِ، لأنّ تونس ستكون مضطرَّةً لاستيرادِ التِّكنولوجيا وتصديرِ المادّة الخام، وهذا لن يمنحَ تونس أي قيمةٍ مضافّة".
وحسب تقرير شركة "ديلويت" للاستشارات، فإنّه من المتوقّع أن يُعيدَ الهيدروجين الأخضَر رسمَ خريطةِ الطاقةِ والموارد العالميّة في أوائل العام 2030، وإنشاءَ سوقٍ قيمتها 1.4 تريليون دولار سنويًّا بحلول العام 2050. وعلى مدار السنواتِ الأربع الماضيةِ شهدَت أسواق الهيدروجين زيادة 7 أضعاف في حجمِ الاستثمارات.
وحسب الشركة عينِها، فإنّه بحلول سنة 2050 ستكون شمال أفريقيا (110 مليارات دولار سنويًّا) وأميركا الشمالية (63 مليارًا) وأستراليا (39 مليارًا) والشّرق الأوسط (20 مليارًا) المناطق الرئيسيّة المصدِّرة للهيدروجين الأخضَر.
(خاص "عروبة 22")