اقتصاد ومال

"المونديال" في الدول العربية: فرصة لتسريع النمو أم فخ اقتصادي؟ (2/2)

توقّفنا في الجزء الأول من هذه المقالة عند مجموعةٍ من الأسئلة من وحي انخراط مجموعةٍ من الدول العربية في احتضانِ نهائيّات كأس العالم لكرة القدم، بخاصّة بعد أن تمّ خلال شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي الإسنادُ الرّسمي لتنظيم نسخة سنة 2030 إلى المملكة المغربيّة برفقة كلّ من إسبانيا والبرتغال، وتأكيد استضافة المملكة العربية السّعودية لنسخة سنة 2034.

من بين تلك الأسئلة، الاستفسارُ عن الأسبابِ التي تقف وراء هذه المبادرات: هل الباعثُ اقتصاديٌ محض؟ أم إنّه يلامسُ جوانب أخرى قد تكون مكمّلة للبُعدِ الاقتصادي؟ قد نعلمُ بعضَها ويغيب عنا جُلّها. ونتوقّف في الجزء الثاني من هذه المقالة عند الوجهِ الآخر للمبادرة نفسِها، وهو الوجهُ الذي يجعلُ البعض يتوجّس من تبعاتِ ما بعد تنظيم التظاهرة الرياضيّة العالميّة.

يجبُ أن لا نغفلَ، ونحن في خضمّ الحديث عن إيجابيّاتِ تنظيم كأس العالم، عن رصْدِ مخاطرِه المُرْتقبة، فإن كانت تكاليفُ تنظيم كأس العالم لا تشكِّلُ ضغطًا على موازنتَي قطر والعربيّة السعوديّة، فإنّ الموازنةَ المغربيّةَ التي تعتمد أساسًا على المواردِ الضريبيّة ستواجه ضغوطًا غير مسبوقة، قد تزجُّ بها في غياهِبِ الاستدانةِ التي تجاوزت خلال سنة 2024 حاجز 78% من النّاتج الخام، وهو رقمٌ مقلقٌ للغاية قد يرهن جُزءًا كبيرًا من مواردِها لخدمةِ الدَّيْنِ طويلِ الأجل، الأمر الذي قد يدفع الحكومة للبحثِ عن بدائل في مقدمتِها تسريع وتيرة الإصلاحات الضريبيّة.

سيناريو كارثي شهدته اليونان والبرازيل حيث عصفَت أزمات اقتصاديّة بالبلدَيْن لا تزال آثارها بادية إلى حدود السّاعة

هذه المُستجدّاتُ ستقتضي إقرارَ زياداتٍ جديدة وتوسيعَ قائمة المشمولين بها، وهو ما قد ينعكس سلبًا على السِّلم الاجتماعي والطّلب الدّاخلي والجاذبيّة الاستثماريّة، ناهيكَ عمّا قد يتسبَّب به من إعادةِ ترتيب الأولويّات الاستثماريّة التي قد ترجِئُ إنجازَ بعضِ المشاريع التنمويّة أو ذاتِ الصّبغة الاجتماعيّة إلى ما بعد كأس العالم، خصوصًا تلك المتعلقة بإصلاحِ صناديق التّقاعد واستكمال وُرَشِ الحماية الاجتماعيّة.

إنَّ تحقُّقَ هذه المخاطر رهينٌ بعدمِ جني الأرباحِ والعوائِد الاقتصاديّة المنتظرة وعدم تغطية الموارد الماليّة المتحصّلة للنّفقاتِ المُنجزَة، وهو سيناريو كارثي سَبَقَ وشهدته دولٌ كاليونان التي احتضنت الألعاب الأولمبية لسنة 2004 والبرازيل التي احتضنت نسخة كأس العالم لسنة 2014، بحيث عصفَت أزمات اقتصاديّة بالبلدَيْن لا تزال آثارها باديةً إلى حدود السّاعة، وفي هذا الصّدد نسوق أيضًا مثالَ الولايات المتحدة الأميركية التي خسرت خلال نسخة سنة 1994، ما يناهز 9.6 مليارات دولار من دون أنْ تُحقِّقَ أرباحًا تُذكر، وألمانيا التي استضافت كأس العالم عام 2006 ولم تُحقِّق سوى 194 مليون دولار كأرباح، وجنوب أفريقيا التي أنْفقت أكثر من أربعة مليارات دولار لاستضافة كأس العالم 2010، من دون أن يكونَ لهذا الإنفاق عوائد اقتصاديّة مُهمّة، وهي سيناريوات مخيفة اقتصاديًّا لدولٍ أخرى كالمغرب الذي يبحث عن تحقيقِ توازنِه الاقتصادي من خلال هذه الاستضافة، على غرار ما حقَّقته إسبانيا التي نظّمت نسخة سنة 1982 واستضافت دورة 1992 من الألعاب الأولمبية في مدينة برشلونة، وهي الفعّاليات التي شكَّلت فرصةً ذهبيةً للاقتصاد الإسباني، مَكَّنَتْهُ من تحقيقِ توازنه وتسريع انضمامه واندماجه في السّوق الأوروبية المشتركة آنذاك.

إنَّه السيناريو ذاته الذي تطمح المملكة المغربية لتحقيقه، بخاصّة أنها مطالبة اليوم بتنظيمٍ جزئيٍّ مشترك، ستكون تكاليفه أقلّ مقارنةً بالنُّسَخِ السّابقة أو اللّاحقة، وبالتّالي فإنّ حجمَ الضّرر في حال تحقُّقِه سيكون متحكّمًا فيه، كما يجب أن لا نغفلَ في هذا الصدد، أنَّ معظمَ البُنى التحتيّة التي هي بصددِ التّشييد في المغرب، باستثناءِ الملاعب الرياضيّة، تندرجُ في إطارِ توجّهاتِ الدّولة الاستراتيجية لتطويرِ قطاعاتٍ عديدة، كالنّقل والصحّة والسّياحة وغيرها، وبالتّالي فإنّ عائد هذه القطاعات التّنموي سيكون مضمونًا مقارنةً بالاستثمارات الموجَّهة للبنى التحتيّة الرياضيّة.

خيار التّنظيم المشترك والشّراكة مع القطاع الخاصّ يحول دون تكبُّد الاقتصاد المغربي خسائر كبيرة

تجدر الإشارة في هذا الصدد، إلى أنَّ جزءًا من الاستثماراتِ المرتبطةِ بكأس العالم ستكون على شكل شراكات بين القطاعين الخاص والعام، وهو ما سبق أن شهدناه في نسخةِ قطر، وهو أيضًا ما نشهده الآن من خلال التدفّقات الاستثمارية الموجّهة للقطاع السّياحي والرّياضي في المغرب والمملكة العربية السّعودية، ما سيخفِّفُ جزئيًّا الاعتماد على الموازنات الحكوميّة، ويقلّص كذلك حجم المخاطر المرتقبة.

إجمالًا، وعلى الرَّغم من حجمِ المخاطر الاقتصادية المرتبطة بتنظيم كأس العالم، إلّا أنّ اختلافَ النّماذج الاقتصاديّة العربيّة وتفاوُت إمكاناتِها الماليّة، يجعلُ تَمَثّل هذه المخاطر يختلفُ من بلدٍ لآخر، فإنْ كان بمقدورِ الاقتصادَيْن القطري والسّعودي احتواء المخاطِر المرتقبة، فإنّ قدرةَ الاقتصاد المغربي على امتصاصِ الصّدمات النّاجمةِ عن عدمِ تحقُّق العائد المُرْتقب تظلُّ محدودةً جدًّا، وهو ما حدا بالمملكةِ المغربيّة إلى ترجيحِ خيار التّنظيم المشترك والشّراكة مع القطاع الخاصّ، ما قد يُشكِّل صمّام أمانٍ يحول دون تكبُّد الاقتصاد المغربي خسائر كبيرة في حال تحقَّق السيناريو السّلبي.

يمكن أن تُشكِّل استضافة كأس العالم للمغرب فرصة لاختصار الزّمن التّنموي وتجاوز الخلل الاقتصادي البنيوي

وفي المقابِل، يمكنُ أنْ تُشكِّلَ استضافة كأس العالم بالنِّسبة لبلدٍ كالمغرب فرصةً حقيقيّةً لاختصارِ الزّمن التّنموي وتجاوز الخلل الاقتصادي البنيوي الذي يسِمُه منذ عقودٍ طويلة، كما قد يفتح أمامَه أبوابَ ولوجِ نادي الدّول الصّاعدة وهو ما نتمنّى تحقّقه، كما نتمنى أن تُتاحَ الفرصةُ أيضًا لبقيّة الدول العربيّة لتنظيم هذا الحدث العالمي بشكلٍ مشترك، لما قد يكون له من آثار إيجابيّة ليس فقط على المستوى الاقتصادي، بل أيضًا على المستويَيْن الاجتماعي والسّياسي، عبر تذويبِ الخِلافات السّياسيّة وتسريع رفعِ الحواجز الحدوديّة والجمركيّة أمام تدفُّقات المواطِنين والبضائِع ورؤوسِ الأموال.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن