على الرَّغم من أنَّ حربَ تحرير الكويت التي تزعّمتها أميركا، وأعلنت من خلالِها عن قطبيَّتِها المنفردة، لم تكن لتنجحَ إلّا بدعمٍ لوجستي من دولٍ عربيةٍ كبرى، انتصارًا للشرعيّتَيْن: الدوليّة والعربيّة، فقد تصرَّف العقل الأميركي وكأنَّ العربَ جميعًا قد هُزِموا وليسَ العراق وحده.
كما تمَّ تفكيك الكتلة الاشتراكيّة حول روسيا تمَّ عزلُ مصر وتفكيك الكتلة العربيّة ليتأكَّد انكشافها أمام إسرائيل
وبينما كانت الشعوب العربيّة، حتى في دول التّحالف، مصر وسوريا والسّعودية، تتجرَّعُ مرارةَ العلْقمِ وهي تشاهدُ عبر الفضائيّات عملية تدمير العراق، كأحد أكثر المشاهد كآبةً في تاريخِنا المعاصِر، وكانت تعزّي نفسَها بضرورةِ تحرير الكويت، فإنَّ الولايات المتحدة لم تكن تصغي إلى تلك المشاعِر العميقة، ومن ثمّ استمرَّت تُغَذّي ذلك المشهد الكئيب بمشاهدِ الحصار والتّجويع، وصولًا إلى احتلال العراق عام 2003 وتفكيك ليس فقط نظام الحكْم بل مؤسّسات الدولة وعلى رأسِها الجيش، بتهمةٍ ثبت زيفها، الأمر الذي غذّى ظاهرةَ الأسْلَمَة، وأنتجَ تنظيم "داعش" في مفاجأة غير سارّة لها، نتجت عن تصوّراتها الاختزاليّة لأنساق ثلاثة رئيسية:
التصوّر الأوّل، يتمثَّل في نظرتها إلى القوميّة العربيّة على أنها مجرّد إيديولوجيا سياسيّة قابلة للهزيمة والتّلاشي. وكما تداعَت الإيديولوجيّة الشّيوعيّة ومعها نمط الحياة السوفياتي أمام الليبيرالية ونمط الحياة الأميركي، فقد توجَّب على القوميّة العربيّة أن تُسَلِّمَ قِيادَها للحركةِ الصهيونيّة. وكما تمَّ تفكيك الكتلة الاشتراكيّة حول روسيا ليتبدّى انكشافها أمام الغرب، تمَّ عزلُ مصر بسلامٍ منفرد، وتفكيك الكتلة العربيّة حوْلها ليتأكَّد انكشافها أمام إسرائيل. لكن، ولأنَّ العروبةَ حقًّا، انتماء وجودي وليس مجرّد إيديولوجيا سياسيّة، فقد بدت عصيَّةً على أيّ هزيمة يمكِن وصفها بالنهائيّة. وبدلًا من الاستسلام لمحاولة إذلالِها أخذت العروبة تُبدِّل ثيابها، وتستدعي احتياطيّها من المخزون الإسلامي، لتستحيلَ في جزءٍ منها أصوليّة جهاديّة تدافع عن كرامة الأمّة المُهدرة، وتسعى إلى تفريغ طاقة الغضب لديها في كلّ السلوكيّات التي تنتسبُ إلى تيّارات العنف الأصولي.
فضح ترامب النظرة إلى الجغرافيا العربيّة كمنطقة فراغ استراتيجي يسهُل تشكيلها بالضّغط على قياداتها
التصوّر الثّاني، هو تصوّرها للدّين الإسلامي كتراثٍ متخلّفٍ، يسهل الضّغط عليه والتخويف منه لينكمِش أهله على أنفسِهم. وهنا يتبدّى جهلها الفاضِح بالإسلام كدينٍ بالغ الحيويّة، يتّسم بالحضور الطاغي والهيمنة الكاملة على روحِ صاحبه، يقيه أي شعور بالخواء الأخلاقي. فالمسلمُ يمتلك، سواء من أصولِ اعتقادِه، أو من تاريخ حضارتِه، ما يبعث على الفخر. وحتّى إذا رأى حضارته اليوم متخلِّفةً عن نظيرتها الغربيّة فإنَّه لا يشعر بهوانِ عقيدتِه قدر ما يشعر بالغضب إزاء تحوّلات تاريخه، فهو أبدًا لا يشكّ في جدارة الإسلام، بل يكره من يحكمون باسمِه أو يعتدون عليه، ولا يتوانى في ردّ العدوان وذلك سرّ آخر من أسرار العنف الأصولي، لا نبرِّرُه هنا، بل فقط نفسِّرُه.
أمّا التصوّر الثّالث، فهو نظرتها إلى الجغرافيا العربيّة كمنطقة فراغٍ استراتيجي يسهُل تشكيلها بالضّغط على قياداتِها. تلك النّظرة التي جرى مرارًا التّمويه عليها بأغطيةِ الدّيبلوماسية وأعرافِها، هي التي فضحها الرّئيس ترامب عندما طالبَ مِصر والأردن بقبولِ هجرةِ نحو مليونَي فلسطيني إلى أراضيهما، في "ترانسفير" جديد يُمثِّل نكبةً ثانيةً بعد أكثر من ثلاثة أرباع القرن على النّكبة الأولى. يأتي ذلك بعد حضور الولايات المتحدة المباشر ببوارجها وغوّاصاتها وحاملات طائراتها إلى قلب تلك الجغرافيا لدعم إسرائيل في عدوانِها على غزَّة الصّغيرة المحاصرة، وعلى الجنوب اللّبناني الحزين، مع صمتِها المُشين عن كلّ ما ارتكبتْهُ ولا تزال ترتكبُهُ إسرائيل في الساحتَيْن من مجزرةٍ تلوَ أخرى، وكذلك عن توسيعِها للاحتلال وتدميرِها للبنية العسكريّة في سوريا.
المُحتمل أن يتلو الهزائم العارِضة موجات جديدة من المقاومة تثير حروبًا أكثر شراسة وتغذّي تيارات عنف أكثر أصوليّة
لا تُدرك الولايات المتحدة أنَّها، بفرض نجاحها في استنزاف نُظُم الحكم المحافِظة أو المستبدّة، لن تنجح قطّ في كسر إرادة المجتمعات العربيّة، أو نَسْخِ أصالة المنطقة، والسّيطرة الكاملة عليها، حتى لو تنامى وجودها العسكري على خرائطها. فالمُحتمل أن يتلوَ السّكون المؤقّت، والهزائم العارِضة موجات جديدة من المقاومة، تثير حروبًا أكثر شراسةً، وتغذّي تيارات عنف أكثر أصوليّةً، تجعل السيطرة الصهيو ـ أميركية عليها أمرًا مستحيلًا، وإنْ تقاسَم الجميع التكلفة الجسيمة لهذا الإدراكِ المتأخِّر.
(خاص "عروبة 22")