التجويع والتهجير.. و

بينما كانت إسرائيل تدُك مدن وقرى قطاع غزة في حرب 2008/2009 التي عرفت إسرائيليا بـ"الرصاص المصبوب" وفلسطينيا بـ"معركة الفرقان"، كتب دان شيفنون رئيس مركز أبحاث الأمن القومي في جامعة حيفا، مقالا في صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية أكد فيه أن أهداف تلك الحرب ومعيار نجاحها لا يكمن في القضاء على "حماس" ولا "القسام"، لافتا إلى أن الهدف الاستراتيجي هو "خراب غزة".

ويرى شيفنون في مقاله الذي نشره قبل 3 أيام فقط من نهاية الحرب التي استمرت 23 يوما مخلفة نحو 1500 شهيد و5500 جريح، أن "خراب غزة" سيسهم في منع اندلاع حروب مستقبلية مع لبنان أو سوريا، كما أنه سيعطي أيضا إشارة واضحة إلى إيران بشأن "حدود ضبط النفس الإسرائيلي". وفي 17 يناير 2009، أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، إيهود أولمرت، أن المجلس الوزاري المصغر صوّت لصالح وقف إطلاق النار، ما وضع حدًا لحرب استهدفت فيها آلة الاحتلال كل المرافق الحيوية في القطاع: من مدارس وجامعات ومساجد، إلى مستشفيات ومراكز طبية.

ورغم كل ما تعرضت له غزة من "خراب"، فشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها. فقد نهض القطاع من تحت الركام، بسكانه ومقاومته وسلاحه ومؤسساته المدنية، ليعود شوكة في خاصرة إسرائيل التي حاولت مرارا كسرها لكنها تفشل في كل مرة. وعقب كل فشل، تعاود دولة الاحتلال رسم مخططات أكثر قسوة وإحكامًا وإجرامًا، لاستكمال مشروع كسر القطاع الذي بات يمثل تهديدًا وجوديًا للدولة العبرية.

"إسكات الزمن الفلسطيني"، هكذا صاغ المفكر الإسرائيلي أورن يفتحئيل، أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة بن جوريون، الهدف الاستراتيجي من الحروب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني. ففى مقال كتبه إبان حرب 2009، قال: "هذه الحرب استمرار لمشروع وسلوك إسرائيل التي تبنت هدفًا متشددًا ووحشيًا يتمثل في إسكات الزمن الفلسطيني، أي محو التاريخ الكامل لهذه البلاد"، مضيفًا أن "إسكات التاريخ يعني أيضًا محو المكان الفلسطيني، ومعه الحقوق السياسية الكاملة".

منذ عام 2009، خاضت إسرائيل ست حروب ضد قطاع غزة. وعلى الرغم من نجاحها عبر ترسانتها العسكرية الضخمة في "تدمير القطاع، إلا أنها لم تفلح في إسكات الزمن الفلسطيني". مع اندلاع الحرب الأخيرة والتي بدأت بعد ساعات من عملية "طوفان الأقصى"، غيرت إسرائيل استراتيجيتها، إذ لم يعد هدفها فقط إخضاع الشعب الفلسطيني، بل تهجيره أولًا من غزة، ثم من الضفة الغربية، وإعادة ترسيم خريطة "إسرائيل الكبرى" لتشمل كامل الأرض من البحر إلى النهر، مع فرض مجال أمني حيوي في دول الطوق، تحقيقًا لحلم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بإعادة تموضع دولته كقوة إقليمية عظمى تهيمن على الشرق الأوسط، وتعيد رسم خرائطه.

نجحت إسرائيل في تحقيق بعض أهدافها في لبنان وسوريا، لكنها ورغم مرور نحو عامين على بدء العدوان الغاشم على غزة والذي استخدمت فيه كل أسلحتها لم تتمكن حتى الآن من إجبار الشعب الفلسطينى الصامد ومقاومته الباسلة على الاستسلام ورفع الراية البيضاء. لم يخف نتنياهو ووزراؤه في حكومة اليمين الديني المتطرف رغبتهم في تهجير سكان غزة، استكمالًا لأجندتهم الخاصة بإعادة تشكيل المنطقة. ولأجل ذلك، استخدموا أحقر الوسائل: القتل، والتشريد، والتدمير، وأخيرًا التجويع، عبر فرض حصار محكم يمنع دخول المساعدات الإنسانية، حتى لا يجد أهل القطاع ما يسد رمقهم، فيضطروا إلى القبول بمخطط التهجير "الطوعي" الذي تتقاطع فيه أهداف الاحتلال مع الرغبة الأمريكية.

وفي الوقت الذي تجري فيه مفاوضات بشأن صفقة جزئية لوقف مؤقت للحرب، وبينما ترتفع كل يوم أعداد الشهداء بسبب الجوع وسوء التغذية، توجّه رئيس جهاز "الموساد" دافيد برنياع إلى واشنطن هذا الأسبوع، طالبًا من الإدارة الأمريكية المساعدة إقناع دول بإعادة توطين مئات الآلاف من سكان القطاع. وخلال لقائه مع ستيف وتيكوف، مبعوث الرئيس الأمريكي، قال برنياع إن "إثيوبيا، وإندونيسيا، وليبيا أبدت انفتاحًا على استقبال أعداد كبيرة من الفلسطينيين"، واقترح أن تقدم واشنطن حوافز لتلك الدول كي توافق على الخطة الإسرائيلية.

تستخدم إسرائيل سلاح التجويع كجزء من حربها الشاملة على القطاع. فلم تعد المجاعة عرضًا جانبيًا أو نتيجة للحصار، بل أداة مدروسة لدفع السكان نحو "الهجرة الطوعية" المدعومة أمريكيًا، فحين يُحاصر الناس بين القصف والجوع، يصبح الخروج من الأرض خيارًا ممكنًا. حتى الآن، أظهر أهل غزة تمسكًا بالأرض والبقاء، لكن استمرار الحصار والموت والجوع، وسط الصمت الدولص والتخاذل العربص، قد يدفع الناس إلى اليأس، ما يفتح الباب أمام تنفيذ سيناريو "إسكات الزمن الفلسطيني"، بما يتضمنه من محو للشعب والمكان والتاريخ.

(الشروق المصرية)

يتم التصفح الآن