عين المراقب لا يمكن أن تُخطئ أنّ هذه النوعية من التصريحات قد زادت على نحوٍ لافتٍ في هذا العام، فمن تصريحاتٍ تفيد بالرغبة في إلغاء وجود دولةٍ لحساب أخرى أو ضمّ أجزاء من دولةٍ لأخرى، كما في تصريحات الرئيس الأميركي التي عبّرت عن اعتقاده بأنّ كندا يجب أن تكون الولاية الأميركية رقم 51، أو طالبت بضم غرينلاند التابعة للدنمارك إلى الولايات المتحدة، أو أعربت عن النية في استعادتها قناة بنما، أو التصريحات الخاصّة بتهجير سكان غزّة إلى مصر والأردن، وتحويل غزّة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"، أو التي وجّهت المسؤولين الأميركيين المعنيين إلى عمل الترتيبات اللازمة مع السلطات المعنية في مصر لمرور السفن الأميركية من قناة السويس مجّانًا، أو التي طالبت سكان عاصمة يربو عدد سكانها عن عشرة ملايين بالنزوح منها، أو تلك التي أفادت بمعرفة المكان الذي يختبئ فيه زعيم دولة، لكن قرار قتله لم يُتَّخَذ بعد، وهلمّ جرّا.
وتكشف هذه التصريحات جميعها عن استخفافٍ تامٍ بقواعد القانون الدولي والإنساني في التعامل بين الدول، وهو استخفافٌ لا تُجدي حقائق القوة معه نفعًا، بمعنى أنه يُفضي إلى أهدافٍ لا يمكن أن تتحقّق إلّا بصراعاتٍ وحروبٍ ذات آثار فادحة على الجميع، وليست مصادفةً بطبيعة الحال أنّ أيًّا من هذه التصريحات لم يجد طريقه إلى حيّز التنفيذ.
محتوى التهديد الذي وجهه المبعوث الأميركي هو تهديد يمسّ بقاء لبنان كدولة مستقلة
لكن تصريح توماس باراك المبعوث الأميركي للبنان الذي أدلى به في 12 يوليو/تموز يستحقّ بامتياز "جائزة أغبى التصريحات"، فقد تفضّل سيادته بالقول بأنّ لبنان يواجه تهديدًا وجوديًّا، وإذا لم يتحرّك فقد يعود إلى "بلاد الشام" مرةً أخرى. ومَثَّلَ هذا التصريح مفاجأةً تامةً، لأنّ باراك كان قد أثنى بشكلٍ مبالغٍ فيه خلال الزيارة نفسها على الردّ الرسمي اللبناني على الورقة الأميركية التي كان نزع سلاح "حزب الله" جوهرها الأساسي، كما أوضحت د. نيفين مسعد في مقالها المنشور في صحيفة "الأهرام" المصرية السبت 19 يوليو/تموز بعنوان "نحو الشرق الأوسط الجديد: وحدة الهدف واختلاف الوسائل"، فما الذي حدث في هذا الوقت الوجيز بين الثناء الشديد والتهديد الخطير حتى يُدلي باراك بهذا التصريح اللّامعقول؟.
وهو كذلك لأنّ المعروف أنّ الموقف اللبناني الرسميّ كما عبّر عنه رئيس الجمهورية من دون أدنى لبس هو حصر السلاح بيد الدولة، وأنّ المشكلة تكمُن فقط في آليات التنفيذ وتوقيتاته وشروطه، لأنّ التنفيذ غير المدروس يمكن أن يتسبّب في مشاكل وفتن داخلية يستطيع أي مراقب أن يتخيّلها. كما أنّ هذا التنفيذ بالتأكيد يتطلّب مناخًا معيّنًا تلتزم فيه إسرائيل باتفاق نوفمبر/تشرين الثاني على الأقلّ، فتنسحب من النقاط التي ما زالت تحتلّها بالمخالفة للاتفاق، وتتوقّف عن أعمالها العدوانية، وأي محاولة للضغط في غير هذا الاتجاه يمكن أن تكون عواقبها كارثيّة.
غير أن الأدهى والأَمَرّ يتمثّل في محتوى التهديد الذي وجهه المبعوث الأميركي في حال تقاعُس لبنان عن الحركة، وهو تهديدٌ يمسّ بقاء لبنان كدولةٍ مستقلةٍ، ويتّسق على هذا النحو مع تصريحات حمقاء مماثلة طالت بقاء دول راسخة وسلامتها الإقليمية كما رأينا في حالات كندا والدنمارك وبنما. أمّا ثالثة الأثافي فهي الحديث عن عودة لبنان لـ"بلاد الشام" التي لا تملك من أمر نفسها شيئًا الآن، بين فوضى الفصائل التي تتناقض ممارساتها تناقضًا صارخًا مع الخطاب السياسي المُعلن، بما يشير على أحسن الفروض إلى عدم إحكام السلطة الجديدة في دمشق سيطرتها على هذه الفصائل، وبين تغوّل إسرائيل التي انتهكت اتفاقًا دوليًا، واحتلّت أراضٍ جديدةً من سوريا، ودمّرت جيشها، وأعطت نفسها الحقّ في التدخّل في شؤونها الداخلية لحماية دروز سوريا وكأنّهم مواطنون إسرائيليون.
تصريح باراك إمّا شديد الحماقة أو أنّه جزء من مؤامرة تهدف لمزيد من تمزيق المنطقة لصالح الشرق الأوسط الجديد
وآخر تجلّيات التغوّل الإسرائيلي في اليوم السابق على كتابة هذه السطور كان مهاجمة القوات الإسرائيلية للقوات السورية المتّجهة لحفظ النظام في السويداء، وقصفها مبنى هيئة الأركان السورية وجانبًا من القصر الجمهوري، وهكذا فإنّ قائل هذا التصريح إمّا أن يكون شديد الحماقة بحيث لا يدري أنّ مفاد تنفيذ تهديده سوف يكون فوضى عارمةً في لبنان وسوريا معًا، بل في المنطقة ككل، أو أنّه جزء من مؤامرةٍ تهدف لمزيدٍ من تمزيق المنطقة لصالح المخطّطات الإسرائيلية والشرق الأوسط الجديد.
وليس مهمًّا بالمرّة أن يكون باراك قد تراجع عن تصريحه بقوله إنّه لم يكن يقصد تهديد لبنان، وإنّما الإشادة بالخطوات الكبيرة التي قطعتها سوريا، وهو عذرٌ أقبح من ذنب يزيد الطين بلّة، فها نحن نرى "الخطوات الكبيرة" في سوريا التي نتمنّى لها كلّ الخير، ما بين الانفلات والتمزّق الداخلي والعربدة الإسرائيلية، فكفى استخفافًا بعقولنا، ودفعنا دفعًا للاعتقاد بصحّة نظرية المؤامرة، والحمد لله أنّ الشعب اللبناني بالأغلبية العظمى لطوائفه، على درجةٍ هائلةٍ من الوعي حَمَتْهُ كثيرًا من مخاطر الاحتراب الداخلي، وما زال قادرًا على أن يصون لبنان المستقلّ المُتماسك بإذن الله.
(خاص "عروبة 22")