هذا الجدلُ يتجدَّد الآن بشأن رفض مصر لطلب وإصرار الفاشي دونالد ترامب على التّهجير القسْري للفلسطينيّين من وطنِهم إلى مصر والأردن. وكلّ ذلك يثيرُ التّساؤلات بشأن طبيعةِ العلاقات الاقتصاديّة المصريّة - الأميركية وإمكانات استخدامها للضغط على مصر.
مصر - الولايات المتحدة... مَنْ يُساعد مَنْ؟
تتشكَّل العلاقات الاقتصادية المصرية - الأميركية من عدَّة محاور تتعلّق بالتّجارة السِّلعيّة والخِدميّة والاستثمار والمعونات وتأثير واشنطن في قرارات "صندوق النّقد الدولي" والجهات المانِحة بشأن العلاقات الماليّة مع مصر.
وفيما يتعلّق بالتّجارة السِّلعية، تُشير البيانات الدّوليّة إلى أنَّ الولايات المتحدة تحقِّقُ عجزًا تجاريًّا متواصلًا مع العالم بأسرِه منذ خمسة عقود، وبلغ ذلك العجز نحو 1311 مليار دولار في عام 2022. وتلك الدولة العاجزة تجاريًّا مع العالم، تتمتَّعُ بوضعٍ مغايِر في تجارتِها مع مِصر حيث تحقّق فائضًا تجاريًّا متواصلًا بلغ مجموعه التّراكُمي نحو 76 مليار دولار خلال الفترة من عام 1983 حتّى عام 2023. وذلك الفائض لا يتحقّّقُ بفضل القدرة التنافسيّة للصادرات الأميركيّة وإلّا كانت تلك القدرة قد ظهرَت في التّجارة مع باقي بلدانِ العالم، ولكنَّه يتحقَّق بالأساس بفضْلِ ربطِ أيّ مشروعات تُساهم الولايات المتحدة في تمويلِها، باستيرادِ متطلِّباتِها الخارجيّة من الولايات المتحدة.
المساعدات الاقتصادية الأميركيّة تُشكّل لا شيء تقريبًا بالنسبة للنّاتج المحلي الإجمالي المصري
وعلى الرّغم من تراجُع المساعدات الاقتصاديّة الأميركية واقترابها من التّلاشي، إلّا أنَّها خَلَقَت روابطَ تجاريّة مستمرّة بقوّة الدّفع الذّاتي وبمصالح المستورِدين المرتبطين معها، وهي آليّةٌ لدعمِ الاقتصاد الأميركي، ومصر لها اليد العليا فيها لو أرادَت، حيث تتوفَّرُ بدائل للواردات من السّوق الأميركية وبشروطٍ أفضل.
تقزَّمت المساعدات الاقتصاديّة الأميركية لمصر تدريجيًّا من قرابة مليار دولار قبل أكثر من 4 عقود حتى بلغت نحو 115 مليون دولار في عام 2010، وارتفعت بعد عام 2011 لتبلغ 250 مليون دولار، لكنَّها عادت للتّراجُع تدريجيًّا لتبلغَ نحو 125 مليون دولار حاليًّا، ونصيب الفرْد في مصر منها يبلغ نحو 1,1 دولار فقط. وبغضِّ النّظر عن توجيهِها وفقًا لرؤية الولايات المتحدة، فإنَّها تُشكِّل لا شيء تقريبًا بالنّسبة للنّاتج المحلّي الإجمالي المصري الذي بلغ وفقًا لصندوق النقد الدولي (World Economic Outlook Database) نحو 2230 مليار دولار وفقًا لتعادُل القوى الشرائيّة، وهو النّاتج الحقيقي الذي يُستبْعَدُ إثر تقييم العملات بأسعار مغايرة لقدراتِها الشرائيّة المقارَنة في أسواقِها. وحتّى لو نَسَبْناها للنّاتج المحلّي الإجمالي المصري المُقدَّر بالدولار وفقًا لسعر الصَّرف السّائِد بعد تخفيضِه بصورةٍ مبالغٍ فيها للغاية أدَّت لتخفيض القيمة الدّولية لذلك النّاتج من 475 مليار دولار عام 2022، إلى 380 مليار دولار عام 2024، فإنَّها لا تُذكر أيضًا بحيث تبلغ نحو 0,03% من ذلك النّاتج!.
المساعدات العسكرية مُكرّسة لإبقاء التّسليح المصري في مرتبة أدنى من نظيره الصّهيوني
أمّا المساعدات العسكريّة البالغة 1,2 مليار دولار أي نحو 0,3% من النّاتج المحلّي الإجمالي المِصري وفقًا لسعر الصَّرف السّائد، ونحو 0,05% من النّاتج المُقدَّر بالدولار وفقًا لتعادُل القِوى الشرائيّة، فإنَّها مشروطة باستخداماتٍ محدَّدَةٍ وترجع كُلِّيَّةً للولايات المتحدة في صورة مشترَيات للأسلحة والمعدّات العسكريّة وخدمات التدريب الأميركية. وتلك المساعدات هي نوعٌ من التّمويل غير المباشر للمجمّع الصّناعي - العسكري الأميركي تحْت غطاء مساعدة دول أخرى لضمان ولائها للولايات المتحدة. ومن ناحيةٍ أخرى، فإنَّ تلك المساعدات مكرّسة لإبقاءِ التّسليح المِصري في مرتبةٍ أدنى من نظيرِه الصّهيوني وفقًا للإعلان الأميركي الرّسمي الدائِم بضمان تفوُّق الكِيان الصّهيوني وأسلحته على دول الجوار وضمنها مصر.
يمكن القول إنَّ تلك المساعدات الأميركية لا قيمةَ لها مقارنةً بالنّاتج المحلي الإجمالي المصري كما هو واضح من البيانات، وغالبيتها السّاحقة تعود للولايات المتحدة لدعم المجمّع الصّناعي العسكري والشركات الأميركية المورِّدة للسِّلع والخِدمات. أمَّا تحكُّم الولايات المتحدة في قرارات صندوق النّقد الدولي بناءً على كتلتِها التّصويتيّة، هي وحلفاؤها وأتباعها، فإنَّه يمكن التعامل معه بالتّركيز على البدائِل الدولية المُتاحة حاليًّا من خلال مجموعة "بريكس" والعلاقات مع الدول الأخرى إقليميًّا وعالميًّا.
وبالنسبة إلى الخضوع لمشيئةِ واشنطن في بعض القضايا مثل التّوقيع على معاهدة الحدّ من انتشارِ الأسلحة النّووية في تسعينيّات القرن الماضي، على الرَّغم من عدم توقيع الكِيان الصّهيوني عليها كما اشترطت مصر في البداية، فهو خضوعٌ واستسهالٌ للتّبعيَّة أكثر منه اضطرارًا، وهو موقفٌ مجافٍ لروح الاستقلال الوطني والتنميّة المستقلّة.
الأفضل لمصر أن تبادر بالاستغناء عن المساعدات الهزيلة لتُنهيَ هذه الذّريعة للتدخُّل الأميركي في خياراتها ومواقفها
حتّى ندركَ ماهيّة المساعدات التي يمكن للولايات المتحدة أن تستخدمَها للضّغط إذا أرادت، يكفي أن نُلقي إطلالةً على المساعدات التي تُقدّمها الولايات المتحدة للكيان الصهيوني والتي تبلغ سنويًّا نحو 3,8 مليارات دولار، ويبلغ متوسط نصيب الفرد منها في ذلك الكيان نحو 383 دولارًا. وأضافت إليها 17 مليار دولار عام 2024، بواقع 1717 دولارًا للفرد، كدعمٍ لحرب الإبادة الإجراميّة التي شنَّها الكيان الصّهيوني على غزّة. وأضافت 5 مليارات دولار بواقع 506 دولارات للفرد، كدعمٍ لتطوير الدِّفاعات الجويّة الصّهيونية ضدّ المُسيَّرات والصواريخ الإيرانيّة واليمنيّة. أيّ أنّ ذلك الكِيان حصل على 25,8 مليار دولار عام 2024، بواقع 2606 دولارات للفرد. ولو حصلت مصر على ما يُعادِل المساعدات الأميركية المقدَّمة للكيان الصّهيوني عام 2024 مع وضع عددِ السّكان في الاعتبار، فإنَّ الرّقم يصل إلى 290 مليار دولار تقريبًا! ومثل تلك المساعدات غير المشروطة هي التي يمكن لأميركا استخدامها للضّغط لو أرادت.
أمّا المساعدات الهزيلة المقدَّمة لمصر فلا قيمة لها، والأفضل لمصر أن تتجاهلَ جماعات المصالح المحلّية وتبادِر بالاستغناء عنها لتُنهيَ هذه الذّريعة المَقيتة للتدخُّل الأميركي في خيارات ومواقف مصر. كما أنّ النّموذج الذي قدّمته كندا والصين والمكسيك بالرّدّ بالمثل على قيام ترامب برفع الرّسوم الجمركيّة على واردات بلادِه منها، هو وحده الذي يصلح لإيقاف خَبَل ترامب ونزعاته العدوانيّة تجاه البلدان الأخرى سواء اعتبرَها منافسةً لبلادِه، أو يريدها تابعةً لها.
(خاص "عروبة 22")