ظلَّ محفوظ يحفظُ لقطب وقوفَه في مقدمة الذين سارعوا "بحماسٍ" واضحٍ إلى تقديم الأديبِ الشّاب وقتها إلى جمهرة النُقّاد، وإلى جمهور القُرّاء، أفرد قطب أربعة مقالات عن أربع روايات لمحفوظ، ومن بعد كتب محفوظ عن قطب ثلاث مرات على فتراتٍ متباعِدة، الأولى حين صدر كتاب "التصوير الفنّي في القرآن" شبًّهَه "بالمُرْشد للقارئ والمستمع العربي"، يدلّه على مَواطن الحسن ومطاوي الجمال، ويُجلي له أسرار السحر ومفاتن الإبداع، كان القرآن في القلب فصار ملء القلب والعيْن والأذن والعقل جميعًا. ويختم محفوظ بأنَّ "القرآن قد بارك مجهود قطب فرفعه إلى مرتَقًى يتعذّر أن يبلغَه ناقد بغير بركة القرآن".
عام 1947، صار محفوظ معروفًا في الأوساط الأدبيّة وقد صدرت له 7 روايات، وفيه صدرت الرواية الأهمّ لسيّد قطب تحمِل عنوان "أشواك"، تحكي وقائع قصّة حب حقيقيّة عاشَها المؤلِّف مع خطيبتِه، وأهدى الرّواية إلى "سميرة" كما اختار لها اسمَها الروائي، وسمَّى نفسه "سامي"، فجمع بينهما السين كأوّل حرفٍ في اسْمَيْهِما الذي فَشِلَ الحبّ في أن يجمع بيْن صاحبْي الاسمَيْن.
قدّم محفوظ "بورتريه" أدبيًّا تناول فيه شخصيّة سيّد قطب رصَد فيه التحوّلات الفكريّة التي طرأت عليه
مقال نجيب محفوظ عن "أشواك" سيّد قطب، نُشر عقب صدورِها مباشرة، أكَّد فيه أنَّ الروايةَ هي سيرة ذاتيّة للكاتب، مستشهدًا بالإهداء الذي قدّم به قطب قصّته: "إلى التي خاضت معي في الأشواك، فدَميتْ، ودُميتُ، وشَقيتْ، وشُقيتُ، ثم سارت في طريق وسرت في طريق، جريحيْن بعد المعركة، لا نفسها إلى قرار، ولا نفسي إلى استقرار".
تقييم نجيب محفوظ النّهائي ذهبَ إلى أنّها "تجربة شخصيّة، معفاة من ضروراتِ الخلْق في الموضوع والشّخوص، ثم راح يذكر بأنَّ القَصَّاصَ لا يستحقّ هذا الاسم حقًّا حتى يخرجَ من نطاق ذاتِه، ويكتب عن الآخرين"، ثم استدرك ليلتمسَ العذر لسيّد قطب: "من حقّ القصَّاص أن يعالجَ تجربتَه الشّخصيّة ولو لمرًّةٍ واحدة، ومن حقِّه كذلك إذا فعلَ فأحسنَ وأجادَ أن نشهد لفنِّه بما هو أهله من السموّ والبراعة".
من ناحيتِه، عدَّد الكاتب المصري الكبير "وديع فلسطين" الكثير من المآخذ النَّقدية على "أشواك" سيّد قطب تصل إلى نتيجةٍ مفادها أنّها ليست روايةً ذات شأن، وأشار إلى أن ثمّة مشابَهة ملحوظة بين "أشواك" سيّد قطب و"سارة" عبّاس محمود العقّاد، "فالقصّتان على ما يتّضح من سياقِهما مستمدّتان من حياة كاتبيْهما وموضوع كلّ منهما يكاد يكون واحدًا، محوره أنَّ شابًا يحب فتاة فتُبدي له الفتاة من الصَّدِّ ما يقطع الصلة بين العاشقيْن".
في روايته الشهيرة "المرايا"، قدّم محفوظ "بورتريه" أدبيًّا تناول فيه شخصيّة سيّد قطب، رصَد فيه التحوّلات الفكريّة التي طرأت عليه كما رآه في المرّة الأخيرة حين زاره في بيته بحلوان عقب خروج قطب من السجن بعفوٍ صحّي.
امتلك "قطب" ناصِية الكلام وسحره وتملّك "السّنوار" لجام الفعل وإبداعه
وجد محفوظ عنده عددًا من "أصحابِ اللّحى" يتحلقون حول "قطبِهم" الجديد، الذي لم يعُد يشبهُ صديق محفوظ القديم، ولكنه - كعادتِه في إطلاقِ الدّعابات - حاول كسر حدَّة الصَّمت الثّقيل فأطلقت دعابة عابرة، مفترضًا أنّ أساريرَهم ستنفرجُ وأنّهم سيضحكون، يقول: "نظروا إليَّ شزرًا، ولم يضحك أحدٌ حتى سيّد نفسه، وعندها غادرتُ البيت صامتًا".
قبْل أن يغادرَ محفوظ أدركَ حجمَ التحوّل الكبير الذي طرأ على شخصيّة وأفكار صديقِه القديم ما جعله يسأل قطب عن المستقبل، فقال: "هل لديك اقتراح؟"، فقال نجيب: "لديَّ اقتراح أخشى أن يكون "جاهليًّا"، أقترح عليك أن تعودَ إلى النّقد الأدبي".
الفارق بين بطلَيْ "أشواك" وبين أبطال "الشوك والقرنفل" هو الفراق بيْن شخصيتَيْ سيّد قطب ويحيى السِّنوار.
"أشواك" عرضت لنا خبيئة شاب لم يصادفْه ربيع الحب، وفاته قطار الزّواج، يعيش في مثالياتٍ مُصنَّعَةٍ على مقياسِه القروي القادم من الصّعيد الجُوَّاني، ينخرط مصادفةً في قصَّة حب بائِسة يائِسة يعتريه فيها موجات من الشُّكوك، ويعاني عبْرها من أشواكٍ أدمَت روحه، ونثَرت غبَار الأحزان فوق قلبِه الموجوع بعشقِه المبتور.
على الجانِب الآخر، جاء "شوك السِّنوار وقرنفُله" ليقرِّبنا من سريرتِه التي تُظهرُ مدى وعيِه بذاته، وإدراكه لقضيّته، وانحيازه لشعبٍ ينتمي له، ومعرفته الدقيقة بالعدوّ الذي يجابه نازيَّته، ومعها ساديّة الغرب متخفيّة في رتوش ورطان عن الحريّة ومرتدية لباس الإنسانيّة المهترِئ.
لم تكن جماليّات النّص وبنيته الروائيّة هي كل ما يهمّ "السِّنوار" حين اختلى بنفسِه في زنزانته لكي يتعمّق أكثر في رصد مسيرة ومسار القضية الفلسطينيّة وتحوّلاتِها عبر شخصيات وحكايات وليستخرجَ من أعماق ذاكرته وصفًا تفصيليًّا للوقائع والأماكن والنفسيّات.
امتلك "قطب" ناصِية الكلام، وسحره، وتملّك "السّنوار" لجام الفعل، وإبداعه.
اشتهر سيّد قطب بالكتابات الإسلامية أكثر مما عُرف عنه من كتابات إبداعيّة ونقديّة، كما اشتهر يحيى السِّنوار بفعله النّضالي بأكثر مما اشتهر بإبداعِه الرّوائي وترجماتِه ومؤلفاتِه.
مشهديّة استشهاد السنوار دبَّرها القدر على السّيناريو نفسه الذي خطّه بقلمه في أقبية سجون إسرائيل
ربّما على غير ما توقَّع، لم يُخلَّد اسم سيّد قطب في سجلّ كبار المبدِعين كما كان يستحقّ عن جدارة، والمؤسف حدّ الفجيعة أنَّ اسمَه ارتبط بتلك الجماعات والحركات التي تأسَّس بنيانُها على فكرة "جاهليَّة" السُّلطة والمجتمع معًا، ومخاصمتهما والمفاصلة عنهما، كانت المقادير قد كتبت سطور تلك النهاية المأساوية لكاتب كبير، وناقد مبدع، خسرَه النّقد والأدب وخسرته الكتابة الرّاقية، ولم تكسبْه الحياة.
على العكس تمامًا، توقع "السِّنوار" نهايتَه على صورةِ ما جرى في مشهديّة استشهاده التي دبَّرها القدر على السّيناريو نفسِه الذي خطّه بقلمِه في أقبية سجون إسرائيل قبل عشرين سنة من رحيلِه، كتب يُحدِّث أمَّه في روايتِه: "الآن جاء الموعد يا أمّاه، رأيتُ نفسي أقتحم عليهم مواقعهم، أقتلهم كالنِّعاج ثم أستشهد، ورأيتني بين يديْ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جنَّاتِ النّعيم، وهو يهتف بي مرحى بك، مرحى بك".
(خاص "عروبة 22")