من بابِ المَصَالِح المُتَرَتِّبَةِ على استقرار الوضع في ليبيا، طالب غوتيريش الدّول المُتدخِّلةَ في الشأن الليبي بالكفِّ عن ذلك، داعيًا أصحاب السّلطة، لإدراك أنّ هذا الوضع لا يبرِّرُ الحفاظ على الأمور وإطالة أمدِها.
وفي انتظارِ "المُنقذ الدّولي"، الذي لن يأتي أبدًا، تعهّدت تيتيه، التي شغلت سابقًا منصبَ المبعوثة الخاصَّة لمنطقة القرن الأفريقي، بالعمل بأقصى ما لديها من قدرات، مع جميع أصحاب المصلحة والشّركاء الرئيسيّين في ليبيا.
ولاحظ رئيس المجلس الرئاسي اللّيبي محمد المنفي، أنَّ هذا التعيين يأتي في وقت حرج ومُهمّ بالنِّسبة للقضيّة اللّيبيّة، معوِّلًا على خبرة تيتيه الدّيبلوماسية والدولية الواسعة، لتحقيق إنجازات ملموسة تُسهم في كسر ما وصفه بحالة الانسِداد السياسي الرّاهنة.
لكن سيتعيّن على الوافدة الأمميّة الجديدة أن تبدأَ من حيث انتهى سلفها السنغالي عبد الله باتيلي، الذي استقال منتصف شهر مايو/أيار العام الماضي، بعد 18 شهرًا من تولّيه المنصب، تاركًا وراءه عمليّة سياسيّة، في حالة شلل تام.
مَثَّلَت استقالة باتيلي، الذي وصف ليبيا بأنّها "دولة مافيا" تُهَيْمن عليها نُخب سياسيّة وعسكريّة تسعى وراء مصالحِها الضيّقة، جرسَ إنذارٍ إلى الحاجةِ إلى تجاوز الاتفاقات المؤقتة بين النُّخب واتّخاذ موقف أكثر جرأة.
استراتيجيّات فاشلة واتّهامات بالجُملة
ووسط هَوَسِ أوروبا والأمم المتحدة باستراتيجيّات فاشلة في ليبيا، تبدو الأطراف الليبيّة غير مستعدةٍ للتخلّي عن مصالحِها الضيّقة والتّوافق على حلولٍ جذرية.
ولعلَّ أوضحَ مثالٍ على ذلك، استمرار الديبلوماسيّة الأميركية ستيفاني خوري، باعتبارِها القائم بأعمال البعثة الأمميّة، في التّرويج لعملية جديدة لإنهاء الجمود السّياسي وتمهيد الطّريق لإجراء انتخاباتٍ تتألَّف من مرحلتَيْن، عبر تشكيلِ لجنةٍ فنّيةٍ من الخبراء الليبيّين لتطويرِ حلول للقضايا الخلافيّة في القوانين الانتخابيّة، ووضعِ جدولٍ زمني محدّد لإجراء الانتخابات.
وعلى الرَّغم من أنَّ البعثة الأممية، حدَّدَت ولايتها في العمل مع جميع الفرقاء الليبيّين للتوصُّل إلى حلولٍ للقضايا السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة، فإِنَّها تواجهُ اتّهامات بالتحيُّز وعدم الحياديّة من جانب المنطقة الشرقيّة.
وهي أيضًا متَّهمَة بالمسؤولية عن تعقيد المشْهد السّياسي الليبي، ما يدفع إلى التساؤل حول إمكانيّة طرحِها لاستراتيجيَّة جديدة بدلًا من التّفاهمات السياسيّة غير المُجديَة.
ماذا ينتظر تيتيه؟
لهذا قد تواجه تيتيه تحدّيات جسيمة لتحقيق التّوازن بين القوى الكبرى من جهة، وتحفيز الليبيّين على تحمُّل مسؤوليّاتهم من جهة أخرى، حيث لا يزال الجمود السياسي مستمرًّا بين حكومة الوحدة المعترف بها من قبل الأمم المتّحدة ومقرّها طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وبين حكومة الاستقرار الموازية المتمركزة في الشرق برئاسة أسامة حمّاد وبدعم من مجلس النوّاب والجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر.
وأدّى الجمود المستمرّ منذ تأجيل الانتخابات عام 2021، لأجلٍ غير مسمى، إلى تعميق عدم الاستقرار السّياسي والأمني والاقتصادي في ليبيا.
ولم تنجح حتّى الآن مساعي أعضاء مجلس الأمن الدّولي، الذي سيجتمع قريبًا، في عقد اجتماعٍ مغْلَقٍ مع ممثلي الحكومتَيْن المتنافستَيْن على السُّلطة.
وبالضّرورة، فَشِلَت كلّ محاولات البعثة الأمميّة في تيسير مفاوضات سياسيّة لإجراء انتخابات رئاسيّة وبرلمانيّة وطنيّة حرّة ونزيهة بسبب السّياسات الخاطئة، بالإضافة إلى الفسَاد الداخلي، والميليشيات المُسلّحة، والتّنافس الدّولي على النّفوذ، حتى أنّ البعض خَلَصَ الى أنَّ خيار التّقسيم قد يكون الحلّ الواقعي الوحيد المتبقّي.
وهكذا تظلّ الحالة الليبيّة فريدةً من نوعها، حيث لعبت الأمم المتحدة دورًا رئيسيًّا لكنّه لم يكن إيجابيًّا دائمًا في تشكيل المشْهد السياسي في البلاد.
قبضة الفساد المسيْطرة
سيكونُ مِنَ الصّعب تحقيق أيّ تقدم سياسي حقيقي، في المستنقع الذي تَشَكَّلَ بمرورِ الوقت من دون معالجة الفسَاد المُستشري في ماليّة الدّولة، التي تقع ضمن قائمة الدّول العشر الأكثر فسَادًا في العالم.
ويُعرْقل وقوع ليبيا في قبضة الأوليغارشية الفاسِدة، حيث تُهيْمن نخبة ضيّقة من السياسيّين والعسكريّين ورجال الأعمال على مفاصِل الدولة، أيّ تقدم سياسي حقيقي أو إصلاحات اقتصاديّة.
وتبقى قدرةُ الأمم المتّحدة على تحقيق اختراق في الأزمة، ضعيفةً للغاية في ظلّ تجاهُلِ سيطرة الميليشيات المسلّحة على المنطقة الغربيّة، بما في ذلك طرابلس عاصمة البلاد، واستمرار التّواجد العسكري لتركيا، وجيش يضمُّ نحو 7 آلاف من المرْتزقة السوريّين الموالين لها، على الرَّغم من خطة أمميّة لإخراجهم.
ووافق ديبلوماسيّون غربيّون ومراقبون محلّيون، على كون طرابلس البؤرَة الأكثر احتقانًا، بوضعِها الأمني الهشّ القابل للانفجار، كما أنَّ استمرار الانقسام وصراع الميليشيات، يعزّز احتمالَ اندلاعِ حربٍ جديدة.
على الرَّغم من تفاؤل النّخبة الليبيّة، تواجه تيتيه اختبارًا صعبًا، بضمِّها لقائمة المبعوثين الدوليّين العشرة، الذين استقال نصْفهم، وسط تقارير مملّة ومكرّرة، تروي قصّة الدّولة التي أسقطها حلف شمال الأطلسي عسكريًّا قبل 14 عامًا وتَرَكَها للفوْضى!!.
(خاص "عروبة 22")