بصمات

أم كلثوم... دنيا العرب!

خمسون عامًا، وأم كلثوم ما زالت تروي الهوى الدّفين، ولهفة المحبّين، وهجْر العاشقين. شخصيّة فنّية وازِنة تخطّت حدود الصّوت والأدوار والأداء والإنشاد، إلى ناطق رسمي باسم الحب والكيان العربي في تحوّلاته على كافّة الصعد، وسيلةً للتعرّف على سوسيولوجيا المعيش العربي فيما يتجاوز دراسة الصّوت وطبقاته ومرتباته، وتعبيراته الشّعرية والموسيقيّة التي انعقدت على جسد أغنية تحوّلت ظاهرة أثيريّة على مدى عقودٍ طويلة.

أم كلثوم... دنيا العرب!

عصرٌ من الزّمن الغنائي، معادِلًا موضوعيًّا لمِصر بكلّ ما فيها من طبيعة، من القرية الريفيّة البسيطة ٳلى القاهرة، الجغرافيا السّاحرة والتنوّع الحضاري والتّاريخي والنّيل الخصْب، وبينهما الجمهور العريض حين يتعامل معها، ويَأْتَلِفُ بارتباطاتٍ بين أطياف العائلات العربيّة الارستقراطيّة والشعبيّة في حفلاتٍ جمعت خطوط الاتّصال الجماهيري الأوسع، وكرّستها نجمة/كوكب الغناء العربي قبل ثورة 1952 بكثير.

كأنّها جمهورية تتحرّك وكلّ شيء ينبض بلغة الإحساس

كتب عنها الكثيرون، محمود عوض عن صوتها واشيائها (1969)، و"موسوعة أم كلثوم" لفيكتور والياس سحاب (2016)، ونعمات فؤاد (1967)، ورجاء النقاش (2009)، وفرجينيا دانيلسون "صوت مِصر" (1997)، وغير ذلك الكثير من الدّراسات التي اعتبرتها صوت مصر العظيم، وأخرى عن استخدامها الأغنية سلاحًا في المعركة في مجهود الجيش المصري بعد نكسة 1967، وعن العلاقة الشّديدة الخصوصيّة مع الزّعيم جمال عبد النّاصر، وكيف انقلَبت تلك العلاقة ٳلى سوءِ تفاهمٍ كبيرٍ مع الرّئيس أنور السادات، الذي قدَّم عليها "وردة الجزائريّة".

ظاهرة غنائية لا تتكرّر، شاملة في تأثيرها في المجال العام، أسطورة الغناء لعقود، تعكس الكثير من الحواسّ والاتجاهات التي سادت الظّواهر الشعريّة مع أحمد شوقي وحافظ ابراهيم وأحمد رامي وابراهيم ناجي وعبد الله الفيصل والهادي آدم ومحمد ٳقبال، والموسيقيّة مع محمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السّنباطي ومحمد عبد الوهاب وبليغ حمدي، واللّغة النقديّة المتفجّرة في تلك المرحلة.

أغنيةٌ رسَمت عالمًا عربيًّا في مجْملِ حواسه في أجمل ما صاغَته تجربةٌ متوغِلةٌ في مكنونات الشّعر العربي واحتمالاته وأغوارِه العاطفيّة، والموسيقى وجماليّاتها في بحرٍ من النّغم مع أساطين اللّحن التّعبيري الكلاسيكي.

غمرتها الشّهرة على خشبات الغناء. مع هذا، حافظت على أسلوبِها في الٳخلاص لجمهورها، كأنّها جمهورية تتحرّك، وكلّ شيء ينبضُ بلغةِ الإحساس، تشاركُه النّجاح وغيره بتلك اللّحظات القويّة جدًّا التي كانت تستقطبُ ناسًا من خارج مِصر، لتكون حاضرةً في عروضها. بعضُهم يستذكر الانطباعات الرّائعة التي كان يعود بها، يحفظ كلّ أغنياتها غَيْبًا، حتى القديمة منها من أربعينيّات وخمسينيّات القرن الماضي، ويحتفظ بإسطواناتها وألوانها المتدفّقة.

وعلى الرَّغم من تلك الشّهرة التي نالتْها، بقيت متعلقةً بعصرها وأهلها، ولا أحد واتتْه الرّغبة ولا فسحة الوقت لتفسير هذا التّعاقد الفنّي الأسطوري الذي شكَّل عناصر نجاح الحالة الأسطوريّة.

الذين يفكِّرون أنَّ "كوكبَ الشّرق" مجرَّد صوت، هم على خطأٍ كبير. كان الغناء هو المسْرح المثالي للحرّية، العوامل المتمرّدة، النّقد الاجتماعي والسياسي للمكوث الطويل في إخفاقات الاصلاح والرّغبة السياسيّة، والمفاهيم السّائدة، ٳلى الحبّ والعنادِ الجميل، وسلسلة من حقائق وحكايات منافسة داخلية وما وراءها، عبْر تلك المساحة السِّحريّة التي تحرَّكت عليها والمليئة غموضًا. تمامًا كما يمكن وصفه بالزّمن الكامل. وبعد خمسين سنة يمكن متابعة تأثيراته في هذا الزّمن الخاضع لعُزلاته ولمنطق السّوق.

الذين رافقوها غادروا قطار النّغم الذي لن يعود

كان ذلك الزّمن المتفجّر في القضايا، والتجريب، والابتكار، والابداع الخاص، والانتاجات الضّخمة، والمخيّلة التي تفتح على كل شيء، ذكريات أخرى. مهرجانات أخرى مفصولة عن هذا العالم المليء بالحرب والعنف والجوع والهجرات.

أم كلثوم لا تُؤخَذ سيرة غنائية منفصلة عن تلك الظّواهر المختلفة المُتعدّدة والمُلْهمة والمُكتظّة وبعمقٍ مدهشٍ مع سلطة المغنيّة على الظّواهر الدّينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والذوقيّة الجماليّة السّائدة ـ تُمثِّل الصورة التي رسمَها العرب للخارج عن وجوهِهم في أطوَل اللّقاءات وأثْمن العطاءات.

تزداد عُزلات الحياة العربيّة قوّةً، توازنًا فنّيًّا لا نعرفه، نفقد علاقاته وشفافيّته. أولئك الذين رافقوها.. غادروا قطار النّغم الذي لن يعود!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن