تقدير موقف

الحل النهائي - "Final Solution"

"الحل الأخير" أو "الحل النهائي"، أو (Endlösung der Judenfrage) كما تُسمّيه المراجع الألمانيّة لتاريخها المعاصر، هو العنوان الذي ابتكره أدولف إيخمان (1906-1962) المسؤول الكبير في الرّايخ الثالث لخطّة النّازي للتخلّص من اليهود، أو لحلّ ما اصطُلح على تسميته أيامها بـ"المسألة اليهودية".  هل يختلف ما يقترحه السيد ترامب، كحلّ أخير "للمسألة الفلسطينية" في صياغة أميركية لفكرة هي إسرائيليّة صهيونية بالأساس عمّا تحكيه لنا كتب التّاريخ عن مأساة اليهود على يد النازي؟.

الحل النهائي -

في الثالث من يونيو/حزيران 1940، أرسل فرانز راديماخر، الذي اختاره النّازيون رئيسًا للقسم اليهودي بوزارة الخارجية الألمانية رسالةً إلى رئيسه يقول فيها: "الحل الوحيد هو إخراج كل اليهود خارج أوروبا". هل تشبه العبارة، وطريقة التفكير ما سمعناه أكثر من مرة من مسؤولين إسرائيليّين بشأن غزّة والفلسطينيّين؟ وهل يذكِّرنا اقتراح الرئيس الأميركي؛ نصًّا ومضمونًا، والذي لم يكن مفاجئًا أبدًا، بمثل تلك الرسالة ومثل هذه التصريحات؟.

كما كان التخلّص من اليهود استراتيجية "نازية" كذلك كان التخلّص من الفلسطينيّين استراتيجيّة "صهيونية"

تعود إرهاصات فكرة التخلّص من يهود أوروبا كحلٍّ "للمسألة اليهودية" بترحيلهم، أو إعادة توطينهم بعيدًا، إلى نهايات القرن التاسع عشر، وإلى كتابات الباحث الاستشراقي الألماني بول دي لاغارد، إلا أنّها لم تأخذ منحاها السياسي والعملي إلّا قُبَيْلَ الحرب العالمية الثانية حين بدأ مسؤولو القسم اليهودي في الخارجية الألمانية (النّازية) بحث فكرة "تهجير" اليهود الأوروبيّين إلى جزيرة مدغشقر الأفريقية، والتي كانت أيامها مستعمرة فرنسية. بالفعل، وبموافقة هتلر وضع أدولف ايخمان خطّة لتهجير مليون يهودي سنويَّا لمدة أربع سنوات إلى الجزيرة البعيدة، لولا أنّ عقبات لوجستيّة تتعلق بمجريات الحرب والحصار البحري البريطاني أيامها أعاقت تنفيذ الخطة لينتقل النّازي بخطتهم إلى ما هو أكثر "نازيةً" ووحشية.

وكما كان التخلّص من اليهود، أو "تنظيف" أوروبا منهم كما كانت تقول الدعاية النازية، وهو التعبير ذاته الذي استخدمه الرئيس الأميركي (وإنْ مجازًا) في حديثه عن غزّة، استراتيجية "نازية" ممنهجة وقديمة (وشرّيرة بلا شك)، كذلك كان التخلّص من الفلسطينيّين استراتيجيّة "صهيونية" ممنهجة، وراسخة، وقديمة... وشرّيرة.

مراجعة الأرشيف الإسرائيلي، والذي يمكن العودة إليه في ما تنشره "هآرتس" الإسرائيلية من تقارير، تقول لنا إنّ "الترانسفير" لحلّ "المسألة الفلسطينية"، ولتصبح "أرض الميعاد" دولة يهودية خالصة، كان على الدّوام مطروحًا في مداولات المسؤولين والسياسيّين منذ اليوم الأول، لا تختلف في ذلك حكومات اليَسار عن اليمين عن جيل المؤسِّسين (المستعمرين) الأوائل، وأنّ ما نسمعه اليوم من وزراء حكومة نتنياهو ليس جديدًا على الفكر الإسرائيلي.

كثير هو قدر التشابُه بين ما جرى تطبيقه أو يخطِّط له نتنياهو وبين ما نقرأه في كتب التاريخ عن "الحل النهائي"

في 25 يونيو/حزيران 1967 (بعد الحرب) اقترح موشيه ديان؛ وزير الحرب أيامها على الحكومة إخلاء قطاع غزّة من الفلسطينيين "لنتمكن من توطين اليهود فيه لاحقًا". وتكشف المداولات الحكومية الإسرائيلية كيف تسابَق الوزراء يومها لتقديم حلول واقتراحات لتنفيذ المقترح. حاييم شابيرا، وزير الدّاخلية اقترح نقلهم إلى العريش المصريّة. وفي حين أيّد إيغال آلون مقترح سيناء؛ كوطن بديل "علينا إقناعهم للانتقال إليه"، كان إلياهو ساسون، وزير الشرطة أكثر تطرّفًا حين قال إنّه بإمكاننا أن نأخذ الذين يرفضون الرحيل "من رقابِهم ورميِهم حيث نريد". ثم لم ينته العام قبل أن يُخبر رئيس الحكومة ليفي آشكول وزراءه بأنه شكَّل وحدة استخباراتية خاصّة لتشجيع العرب على الهجرة "الطوعيّة"، مشدِّدًا على ضرورة معالجة الأمر "بهدوء وسرّية"، للحفاظ على صورة إسرائيل أمام العالم. "إذا لم نعطِهم ما يكفي من المياه فربما لا يبقى أمامهم خيار آخر، لأن الكروم ستصفرّ وتذبُل"... هكذا كتبت يومها آدا سيريني سيدة الموسّاد التي اضطلعت بالمهمة، وهكذا نرى الخطة تُنفَّذ بحذافيرها.

كثيرةٌ هي التفاصيل الموجودة في مداولات الحكومات الإسرائيليّة المتعاقِبة حول الطريقة التي يمكن بها إخلاء غزّة (ثم الضّفّة) من الفلسطينيّين. وكثير هو قدر التشابُه بين تلك الأفكار، وبين ما جرى تطبيقه، أو يخطِّط له بنيامين نتنياهو على لسان ترامب "كحل نهائي" تنتهي به القضية/المسألة الفلسطينية للأبد. وكثيرةٌ هي أوجه التشابُه بين ما نراه ونسمعه اليوم، وبين ما نقرأه في كتب التاريخ عن "الحل النهائي" الذي وضعه النّازيون عنوانًا لاستراتيجيَّتهم للتخلص من اليهود.

الموقف الإسرائيلي - الأميركي من الأونروا جزء مهم وخطير من خطة "الحل النهائي" الصّهيونية/النّازية

يبقى أنّ ما سمعناه من ترامب قبل أيام لا يعدو أن يكون إعلانًا ختاميًّا لما تم تنفيذه فعليًّا على مدى خمسة عشر شهرًا من إجراءات ممنهجة؛ بتمويل، وسلاح، ودعم ديبلوماسي أميركي، بهدف واحد (واضح) هو جعل غزّة مكانًا "غير صالح للعيش"، مما يدفع البشر، شاءوا أم أبوا إلى مغادرته. ومن ثمَّ وضع خطط تسهيل تلك المغادرة، كما أعلن وزير الحرب الإسرائيلي قبل أيام. دعك من أنّ ما يزيد عن 60 ألفًا من المباني تمّ تدميرها كليًّا، وأنّ 66٪ من البنية التحتيّة خرجت من الخِدمة، وبماذا تسمّي الحرص الإسرائيلي على تدمير السجلّات الثبوتيّة، فضلًا عن المدافن؟ هو "محو الهويّة" المتعمّد، والممنهج، والفاضح لحقيقة المخطّطات الصّهيونية، أو هو "الإبادة الجماعية" بالتعريف. بالمناسبة وصْف ما حدث في غزّة، وما ستستكمله إسرائيل على الأغلب بـ"الإبادة الجماعية" لم يَرِد فقط في دعوى جنوب أفريقيا، والتي قبِلتها "محكمة العدل الدولية"، بل ورد (هكذا) في دراسة رصينة للمؤرّخَيْن "الإسرائيليَيْن" دانيال بلتمان وعاموس غولدبرغ الأستاذَيْن في الجامعة العبرية، يُشبِّهان فيها ما يحدث في غزّة، بما تعرّض له اليهود على يد النّازي، مع اختلاف طبيعي في التفاصيل.

بالمناسبة أيضًا، الموقف الإسرائيلي - الأميركي من الأونروا ليس أكثر من مَحْوٍ متعمّدٍ للهويّة، وجزء مهم وخطير من خطة "الحل النهائي"؛ الصّهيونية/النّازية، وتفاصيل ذلك، والتي لن تتّسع لها سطور هذا المقال ها هنا.

الإسرائيليون ليسوا بحاجة إلى ترامب فخططهم التوسّعية ماضية في طريقها

كما يبقى من المثير للغضب قبل السخرية أن تحاول الإدارتان الأميركية والإسرائيلية الظهور بمظهر إنساني بشأن غزّة. فيخرج نتنياهو على "فوكس نيوز" ليقول إنّنا حريصون على "إعمار "القطاع (!) وكأنّه ليس هو الذي دمّره بشكل ممنهج رصدته تفصيلًا التقارير الدولية. ويخرج الرئيس الأميركي ليقول إنّ سكان غزّة (هو لا يذكر كلمة الفلسطينيّين) يستحقّون الحياة الكريمة، وكأنّه لم يوقِّع قبل كلامه هذا بسويْعات قرارًا يسمح بحصول إسرائيل على قذائف الدمار الشامل (2000 رطل) التي استخدمتها وتستخدمها.

وبعد،

فعندما عَرَضْتُ في هذا المكان قبل ما يزيد عن العام لوثائق إسرائيليّة تكشف ما يفكر به الإسرائيليّون بشأن غزّة وسيناء، كنتُ أعتقد، وما زلتُ، أنّ الإسرائيليين ليسوا بحاجة إلى ترامب، فخططهم التوسّعية ماضية في طريقها، فعندما وقف بنيامين نتنياهو على منصّة الأمم المتحدة في ذلك اليوم من سبتمبر/أيلول 2023 يحمل خرائطه، متغطرسًا بقوله إنّ لا أحد يملك الفيتو على ما يخطّط له لمنطقتنا تلك، كان يعرف طريقَه، وكان يدرك تمامًا حقائِق الوَهنِ العربي، والذي لم تكن تصريحات الرئيس الأميركي بشأن غزّة، وأنّ "الإسرائيليّين سيسلّمونها إليه بعد إنهاء مهمّتهم" إلا إحدى نتائجه.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن