على الرغم من الموقف التصعيدي الذي أطلقته الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس من قصر بعبدا حول "حزب الله" وإقصائه من المشهد السياسي بعد "هزيمته" على يد اسرائيل ومع استمرار جولتها على المسؤولين أمس، شهد لبنان تذليلاً للعقبات التي حالت مراراً دون الاعلان عن مراسيم تشكيل الحكومة، التي يقع على عاتقها مسؤوليات جسام تبدأ من تطبيق اتفاق وقف النار وتأكيد الانسحاب الاسرائيلي وفق المهلة المحددة ولا تنتهي عند الإصلاحات الاقتصادية والمالية الملّحة التي يطالب بها المجتمع الدولي كشرط أساسي لإعادة الإعمار وضخ الأموال اللازمة.
وعليه، أبصرت حكومة الرئيس المكلّف نواف سلام النور بعد 27 يوماً على تكليفه، وهي مدة قياسية مقارنة بـ"المخاض" التي كانت تشهده عملية تأليف الحكومات السابقة، ومع الضغوط الداخلية والخارجية التي مورست عليه والتراشق الاعلامي الذي سبب الكثير من البلبلة والتشويش على التشكيل. إلا أن سلام استطاع اخراج هذه الحكومة من "عنق الزجاجة" وانتزاع "الاعراف" التي سادت سابقاً، وتحديداً منذ اتفاق الدوحة عام 2008، من خلال عدم احتوائها على الثلث المعطّل وسحب ورقة الميثاقية التي لطالما شكلت تهديداً داخلياً بـ"التعطيل".
فللمرة الاولى منذ اتفاق الدوحة، يمتلك رئيس الحكومة أكثرية وزارية، بعدما سمي بشكل مباشر 8 وزراء، بينما حصل رئيس الجمهورية على 3 وزراء (الدفاع، الاتصالات والاعلام) والثنائي الشيعي على 4 وزراء (المال، الصحة، العمل والبيئة) والقوات اللبنانية على 4 وزراء (الخارجية، الصناعة، الطاقة والمياه والمهجرّين)، بالإضافة إلى وزيرين للاشتراكي (الأشغال العامة والنقل والزراعة) ووزير للكتائب (العدل) وآخر للطاشناق (الشباب والرياضة). وعليه، يمكن القول أن الحكومة التي جاءت بـ24 وزيراً وتوزّعت على 7 كتل أو أطراف سياسية، غاب عنها "التيار الوطني الحر" و"تيار المردة" كما حلفاء "حزب الله" الآخرون من الدروز والسنّة، ما يمكن اعتباره "انتكاسة سياسية" للحزب تواكب المطالب الخارجية الضاغطة بتقويض نفوذه الداخلي بعد الأحداث الاخيرة التي شهدها لبنان والمنطقة بأكملها.
ومن المقرّر أن تعقد الحكومة أول جلساتها يوم الثلاثاء المقبل، في وقت تتجه الأنظار إلى معركة البيان الوزاري التي تشكل أولى الاستحقاقات، في ظل وجود رغبة بالالتزام بما ورد في خطاب القسم الذي أدلى به رئيس الجمهورية جوزاف عون وحصر مهمة الدفاع عن البلاد بالجيش اللبناني دون ذكر عبارة "مقاومة". هذا وقد توالت ردود الفعل العربية والدولية المرحبة بالتشكيل حيث برزت دعوات لأن تشكل الحكومة الجديدة مدخلاً لإرساء السلام والاستقرار.
التطورات السياسيّة اللبنانية لم تخطف الأضواء عما يجري على الصعيد الأمني. ففي اعتداء سافر جديد، شنّ العدو الاسرائيلي غارة على محلة "الشعرة" المتاخمة لبلدة جنتا، ضمن قرى قضاء بعلبك، على سفوح سلسلة جبال لبنان الشرقية، ما أسفر عن وقوع 6 شهداء وجرحى. وبرّر العدو القصف بأنه "استهداف لعناصر "حزب الله" بعد رصد العمل في موقع لإنتاج وتخزين وسائل قتالية إستراتيجية للحزب". في المقابل، وتحديداً عند الجبهة الشمالية الشرقية، قام الجيش اللبناني بتدمير ثلاثة مرابض مدفعية تابعة لـ"هيئة تحرير الشام" عند الحدود اللبنانية - السورية وذلك بعد انفجار الوضع الامني على خلفية الاشتباكات الدائرة بين العشائر اللبنانية المتواجدة على القرى الحدودية والجماعات السورية وعلى رأسها "هيئة تحرير الشام". وتزامن بسط الجيش اللبناني سيطرته مع اتصال اجراه الرئيس جوزاف عون بنظيره السوري أحمد الشرع، حيث اتفقا على ضبط الحدود ومنع استهداف المدنيين، وذلك بحسب ما أعلنت الرئاسة اللبنانيّة.
أما في قطاع غزّة، ومع اتمام الصفقة الخامسة من تبادل الأسرى، تبدأ اليوم مفاوضات المرحلة الثانية من اتفاق وقف النار بعدما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مساء أمس، إرسال وفد إلى العاصمة القطرية، الدوحة، لإجراء المفاوضات، في حين طالب زعيم المعارضة الإسرائيليّة يائير لبيد بمنح الوفد تفويضاً كاملاً لإتمام الصفقة وذلك بعدما راجت معلومات صحافية مفادها أن الوفد لم يحصل على تفويض لإجراء المحادثات وأن زيارته تمهيدية فقط ولن يعول عليها بشأن إحراز أي تقدم، ما يعني وجود مخاطر حقيقية من انهيار الهدنة.
وهذه المخاوف حذرت منها حركة "حماس" التي شددت على أن "ما نراه من مماطلة وعدم التزام في تنفيذ المرحلة الأولى ومحاولة خلق بيئة سياسية ودولية، دبلوماسية وإعلامية، للضغط على المفاوضين الفلسطينيين سيعرض هذا الاتفاق للخطر وبالتالي قد يتوقف وينهار". في غضون ذلك، شهدت عملية تسليم الرهائن الثلاثة الاسرائيليين في دير البلح، وسط القطاع، سلسلة من الرسائل حيث رُفعت على المنصة صور القادة السياسيين والعسكريين الذين قضوا خلال الحرب مرفقة بشعارات كتب عليها: "نحن الطوفان.. نحن اليوم التالي"، في ردٍ واضح على المقترح الذي يقضي بالسيطرة الاميركية على القطاع وفق ما أفصح عنه الرئيس الاميركي دونالد ترامب الذي دعا أيضاً الى تهجير الفلسطينيين نحو دول أخرى. من جهته، تعهد نتنياهو بالقضاء على حركة "حماس" واستعادة جميع الرهائن الإسرائيليين الذين لا يزالون محتجزين هناك، وذلك في رسالة مصورة بثها مكتبه، مساء السبت.
تزامناً، أفرجت اسرائيل عن 183 معتقلاً فلسطينياً توجهوا إلى القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزّة، بينما من المتوقع أن يستكمل الاحتلال انسحابه الكامل من محور نتساريم الذي يفصل شمال قطاع غزة عن جنوبه وفقاً لاتفاق وفق النار المُبرم. وفي الضفة الغربية، يستمر العدو الاسرائيلي بتكثيف عملياته العسكرية وتوسيعها ما دفع وزارة الخارجية الفلسطينية، من التحذير من "ارتكاب جريمة التطهير العرقي وفرض الترحيل والنزوح القسري (للفلسطينيين) من مخيمات شمال الضفة الغربية وتفريغها، في انتهاك صارخ للقانون الدولي والقانون الإنساني الدولي واتفاقيات جنيف".
سورياً، أعلن مدير منظمة حظر الأسلحة الكيماوية فرناندو أرياس، بعد لقاء جمعه بالرئيس أحمد الشرع ووزير الخارجية أسعد الشيباني، أن اجتماعاته تمثل "انطلاقة جديدة بعد 11 عاماً من العراقيل التي وضعتها السلطات السابقة". يُذكر أن هذه هي المرة الأولى التي يزور فيها مسؤولو المنظمة سوريا منذ عام 2022. وفي سياق متصل، استهدفت غارات إسرائيليّة موقعاً عسكرياً في ريف الكسوة، ما أدى إلى تدميره وسماع أصوات انفجارات، وصل صداها إلى العاصمة دمشق وسط معلومات عن سقوط قتلى وجرحى.
هذا ولا تزال الأوضاع الفلسطينيّة والدعوات الاميركية للتهجير تحتل صدارة اهتمامات الصحف العربية الصادرة. وفي جولة اليوم نرصد:
اعتبرت صحيفة "الخليج" الإماراتية أن "خطة الرئيس الأمريكي الرامية إلى تهجير سكان قطاع غزّة بدأت تتخبط، وقد شكلت الدعوات الحازمة إلى تثبيت الشعب الفلسطيني في أرضه وصون حقوقه المشروعة، جبهة غير مسبوقة، سياسياً وأخلاقياً، لإحباط المشاريع العبثية والشعبوية التي لا تقر بمواثيق ولا تؤمن بمعاهدات". وقالت: "من يتصور أن كل ما يصدر عن سيد البيت الأبيض نافذ المفعول، فهو واهم وعاجز عن استيعاب أن الشعوب إذا استجمعت إرادتها وعزمت على الدفاع عن وجودها فلن تقهر أبداً، وسيكون النصر النهائي حليفها مهما طال الصراع وتشعبت المعركة".
وشددت صحيفة "عكاظ" السعودية أن "ما يثير الغضب أكثر، أن ترمب لم يكتفِ بدعم الاحتلال، بل أصدر أوامر بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية بعد إصدارها مذكرات اعتقال بحق مجرمي الحرب الإسرائيليين والتصديق على صفقات أسلحة جديدة بأكثر من 7 مليارات دولار.... وهكذا، يثبت ترمب مجدداً أن أمريكا ليست حامية للعدالة، بل غطاء للاستعمار الجديد"، مؤكدة أنه "لم يعد مقبولاً الاكتفاء بالشجب والاستنكار، بل المطلوب خطوات عملية تُفشل المخطط الصهيوني - الأمريكي، وتعيد كرامة العربي المنتهكة".
هذا ودعت صحيفة "الأهرام" المصرية الى موقف عربي موحد "حتى لو كانت بعض دولنا مشغولة بمشاكلها الداخلية، وإلا سيقوم آخرون بتقرير مصير المنطقة على غرار طروحات الرئيس الأمريكي الذي أكد قبل توليه منصبه أنه رجل يسعى لنشر السلام في العالم. والحقيقة أنه منذ توليه قبل أقل من 3 أسابيع، لم يفعل شيئا سوى قرارات وتصريحات تشيع القلق ويمكنها نشر الفوضى والمخاطر حول العالم". وأضافت: "عدا مناوشاته مع جيرانه وحلفائه قبل خصومه هل مازال ترامب يرى أنه رجل يسعى للسلام؟ إن سياساته الخارجية والداخلية بالتأكيد لن تجعل أمريكا عظيمة مجددا".
بدورها، تناولت صحيفة "الدستور" الأردنية زيارة الملك عبدالله الثاني إلى واشنطن في 11 من الشهر الجاري، حيث لفتت الى أنه "سيسعى لإقناع الرئيس الأمريكي بأن المنطقة العربية والشعوب العربية، ودول العالم بإجماعها تقريباً ترفض مواقف ومخطط التهجير والترحيل"، مشيرة إلى أنه "يحمل معه أفكاراً ورؤى فيما يتعلق بآلية وكيفية الحل للقضية الفلسطينية بالتنسيق مع الدول العربية، وسوف يحاول أن يقنع الرئيس ترامب والإدارة الأمريكية بأنه لن يكون هناك سلام واستقرار في المنطقة ولا لدولة الكيان الصهيوني إلا في ظل تطبيق القرارات الدولية وأولها حل الدولتين".
ورأت صحيفة "الراية" القطرية، في مقال، أن "الشرق الأوسط يمضي نحو تحولات جديدة في نواح عديدة يتم فيها إعادة تشكيل وضبط بوصلة الأوضاع وما يرتبط بها من توازنات"، مشيرة الى أن "سوريا بلد مهم جداً من الناحية الجيوسياسية، فهو غني بتاريخه وثقافته وشعبه وموارده. لكن نظام البعث السابق حال دون أن تلعب سوريا الدور الذي تستحقه على الساحة الدولية. والآن، بعد أن تحررت سوريا من هذا النظام، فإنها تعود بقوةٍ إلى التاريخ، لتؤدّي دورها المنوط بها جنباً إلى جنب مع تركيا".
الى ذلك، تطرقت صحيفة "الراي" الكويتية الى تشكيل الحكومة اللبنانية، موضحة أن التدقيق في "المسرح السياسي" الذي تم استيلادها في كنفه يفترض التوقف عند عدة مفارقات منها أنها أنهت واقعياً مفاعيل اتفاق الدوحة (2008) الذي استُخدم لتكريس "الثلث المعطل" في الحكومات (لحزب الله وحلفائه)، وخطّت "طريق العودة" إلى اتفاق الطائف، سواء في آلية التشكيل بالتنسيق والتشارك والتوازن بين رئيسيْ الجمهورية والحكومة المكلف، أو في ما سيتم اعتماده كأحد مرتكزات بتّ مسألة السلاح خارج الشرعية".
(رصد "عروبة 22")