من أبرز سِمات أفلام نولان استخدامه للسّرد غير الخطّي. وتُجسّد هذه التّقنية بشكل جلِيّ في أفلام مثل "Memento" (2000) و"Inception" (2010) و"بين النجوم" [Interstellar] (2014).
في فيلم "Memento"، يتلاعبُ نولان بالوقت من خلال تقديم السّرد بترتيب عكسي، وكشْف نقاط الحبكة الحاسِمة تدريجيًّا وإجبار الجمهور على تجربة الحالة الذّهنية المشوّشة للبطل. تضع هذه التّقنية المُشاهدَ في موقف الشخصيّة الرئيسيّة نفسِها، ممّا يزيد من التّأثير النّفسي للقصّة ويطمسُ الخطّ الفاصل بين الواقع والذّاكرة.
وبالمثل، في "Inception"، يلعب نولان بمرونةِ الوقت. يؤدّي مفهوم الأحلام داخل الأحلام إلى طبقات مختلفة من الوقت تتحرّك بمعدّلات مختلفة، وهي أداة بصريّة وسرديّة تُبْقي الجمهور متوتّرًا. إنّ دقَّات الساعة، والنزول إلى عالم الأحلام، والتوتّر اللّاحق بين وقت الحلم ووقت العالم الحقيقي يخلق توتّرًا نفسيًّا يمتدّ إلى ما هو أبعد من الحبكة إلى بنية الفيلم نفسِه. يتيح هذا التّلاعب بالوقت لنولان طَرْحَ أسئلة فلسفيّة معقّدة حول الواقع والاختيار واللّاوعي البشري.
في فيلم "بين النجوم"، يتبنّى نولان نهجًا أكثر علميّةً في التّعامل مع الزّمن، حيث تتشابك الفيزياء النّظرية مع المشاعر الإنسانيّة. يشكِّل مفهوم تمدُّد الزّمن، حيث يتحرّك الزّمن بشكل مختلف اعتمادًا على القرب من الثّقب الأسود، جوهر اللبّ العاطفي للفيلم. يجب على بطل الفيلم، كوبر، أن يتعاملَ مع مرور الوقت بشكلٍ مختلفٍ عن ابنته مورف، مما يخلق استكشافًا مؤثِّرًا للحبّ والخسارة. يمزج الفيلم بين العلوم الصارِمة والقصّة الإنسانيّة، مما يُظهر قدرة نولان على موازنة الدقّة الفكرية مع العمق العاطفي.
عوالم نولان البصريّة الساحرة
تُشتهر أفلام نولان بالتزامها بالمؤثِّرات العمليّة، وغالبًا ما تتجنّب الرّهان على الصّور التي تمّ إنشاؤها بواسطة الكومبيوتر [CGI]، لصالح الأعمال المُثيرة والمواقِع والمُنَمْنَمات في العالم الحقيقي. يساعد هذا النّهج في ترسيخ سرديّاتِه الخياليّة غالبًا في إحساسٍ بالواقعيّة، حتّى عند التعامل مع مفاهيم محيِّرة للعقل مثل السَّفر عبْر الزّمن أو الحقائِق البديلة. ربما تكون ثلاثيّة فارس الظّلام الشهيرة هي أبرز أعماله في هذا الصَّدد، حيث تبرز تأثيراتها العمليّة - مثل انقلاب الشّاحنة في التسلسل الافتتاحي لفيلم فارس الظلام (2008) - كواحدةٍ من أكثر مشاهد الحركة التي لا تُنسى وإثارةً للدّهشة في السينما الحديثة.
في فيلم "دنكيرك" [Dunkirk] (2017)، يرتقي نولان بالتزامِه بالتأثيرات العمليّة إلى مستويات جديدة، والحديث عن فيلم يستند إلى الإجلاء الحقيقي للقوّات البريطانية وقوات الحلفاء من دنكيرك خلال الحرب العالميّة الثّانية، ويتميَّز بتسلسلات مصَمّمة بعناية من المعارك الجوّية والإجلاء البحري والبقاء على مستوى الأرض. يوفِّر استخدام كاميرات IMAX والسُّفن والطائرات الحقيقيّة، بالإضافة إلى الاستخدام المحدود لصورِ الكومبيوتر، تجربة غامرة تسمح للجمهور بالشّعور وكأنَّهم حاضرون جسديًّا أثناء أحداث الحرب. يساعد تفاني نولان في الأصالة والتّصوير السينمائي في العالم الحقيقي في ترسيخِ شعورٍ مكثَّفٍ بالواقعيّة، حتى في أكثر الظروف غير العاديّة.
غالبًا ما يشدّد التصميم المرئي لأفلام نولان على اتّساع التجربة الإنسانيّة، سواء كانت المناظر الطبيعيّة الشّاهقة القاسية في فيلم "بين النجوم"، أو مدينة "غوتام" مترامية الأطراف في فيلم "The Dark Knight"، أو الأجواء الخانِقة في فيلم "دنكيرك"، فإنّ إتقان نولان للحجم واضح. تستخدم أفلامه لقطات واسعة وممتدّة للتأكيد على عدمِ أهمّية حياة الإنسان الفرديّة في مواجهة قوى وجوديّة أكبر، مثل الوقت والحرب والمصير.
موسيقى هانز زيمر: ترانيم من عالم آخر
المشهد السَّمعي لأفلام نولان هو جانبٌ أساسيٌ آخر من أسلوبه السينمائي. غالبًا ما يتعاون نولان مع المُلَحِّن هانز زيمر، في إنشاء موسيقى تصويريّة ليست مجرَّد ألحان في الخلفيّة، ولكنّها جزء لا يتجزَّأ من سرْد القصّة. تعتمد موسيقى فيلم "Inception"، على سبيل المثال، بشكل كبير على لحن يعتمد على إبطاء الوقت - وهو ما يُسمع في الاستخدام الشهير لأغنية إديت بياف "لا، لست نادمة على شيء" [Non, Je Ne Regrette Rien] وفي النّبض الإيقاعي الأساسي الذي يتراكم طوال الفيلم.
في فيلم "Dunkirk"، يكون استخدام الصّوت مُهمًّا بشكل خاص في خلق التوتّر. إنّ دقَّات الساعة المستمرّة، جنبًا إلى جنب مع طنين الطائرات المستمرّ وضربات الأمواج، تغمر الجمهور في التجربة المروّعة للجنود. تعمل الموسيقى التصويريّة على تضخيم شعور الفيلم بالإلحاح والخوف، وجذْب المُشاهد إلى أعماق عالم الشخصيّات.
التّعقيد النفسي وتوصيف الشخصيّة
يُعدُّ التّعقيد النّفسي أحد العناصر الأساسيّة لأفلام نولان. غالبًا ما يكون أبطاله أفرادًا عاديّين مُجْبَرين على مواجهةِ ظروفٍ غيْر عاديّة. تتصارع الشخصيات في "Memento" و"The Prestige" (2006) و"Inception" مع قضايا شخصيّة عميقة مثل فقدان الذّاكرة والهَوَس والشّعور بالذّنب.
يتفوّق نولان في خلق شخصيّات متعدّدة الطبقات تتطوّر طوال مسار أفلامه، وتكشف عن أعماق خفيّة من الدافع والعاطفة. تُشكِّل هذه الشخصيات المعقّدة والمعيبة غالبًا جوهرًا عاطفيًّا لقصصه، مما يجعل المؤامرات عاليَة المفهوم أكثر جاذبيّة وقابليّة للتواصل.
المقاربات الفلسفيّة في سينما نولان
غالبًا ما تكون أفلام نولان مُشْبَعَةً بالموضوعات الفلسفية. تدور الأسئلة المركزيّة حول الإرادة الحرّة والحتميّة وطبيعة الواقع والهويّة البشريّة عبر أعماله، ممّا يرفع أفلامه إلى ما هو أبعد من مجرَّد الترفيه إلى استكشافات تأمُّليّة للمخاوف الوجوديّة.
يتحدّى التَّفاعل بين الوقت والذّاكرة في "Memento" فَهْمَ الجمهور للهويّة الشخصيّة، بينما يُثير "بين النجوم" تساؤلاتٍ حول بقاء البشريّة في مواجهة الدّمار الوشيك. نادرًا ما تُقدِّم أفلام نولان إجابات سهلة، لكنّها تشجِّع الجمهور على التّفكير في تعقيدات الحياة والوقت والوجود.
يتميّز أسلوب كريستوفر نولان السينمائي الفريد بقدرتِه على دمج الدقّة الفكريّة مع السّرد العاطفي، ويظل تلاعبه بالوقت أحد أكثر اهتماماته الموضوعيّة استمرارًا. من خلال السّرد غير الخطّي والمؤثِّرات العمليّة وتوصيف الشخصيات المعقّدة والاستكشافات الفلسفيّة، ابتكر نولان عالمًا سينمائيًّا عظيم النِّطاق وحميميًّا في رنينه العاطفي. تتحدّى أفلامه المفاهيم التقليديّة للوقت والواقع والإدراك، وتُقدِّم للجمهور تجربة غامرة ومحفِّزة فكريًّا تستمرُّ في دفْع حدود السينما الحديثة.
(خاص "عروبة 22")