لماذا لم يتمكن الناطقون بالعربية بمجموع المنطقة العربية من إنتاج سلسلة متكاملة واحدة من الرسوم المتحركة، على الرغم من مرور ما يربو على قرن من الزمن على خروج هذا الفن الجميل للوجود؟ لماذا لم تتعدّ مساهمتنا في هذا المجال بضع حكايات قصيرة جدًا ومجموعة محدودة من الوصلات الإشهارية التجارية والتوعوية؟
هل تعوزنا الأفكار والقدرة على التخيل؟
لا أظن ذلك. فالأمة التي نظمت المعلقات وأبدعت الصيغة العربية لـ"ألف ليلة وليلة" وعشرات المسرحيات والمسلسلات التلفزيونية ومئات الأشرطة السينمائية وخرج من رحمها مفكرون وشعراء وأدباء ومسرحيون وكتاب سيناريو من العيار الثقيلـ قادرة بالطبع على الرقص بأفكارها على الدوام والسباحة بخيالها في محيطات بلا نهاية.
هل نفتقر إلى الموارد المالية؟
الجواب لا يمكن أن يكون إلا بالنفي، ويكفي هنا أن نذكر العالم بأن دولة قطر خصصت حوالي 220 مليار دولار أمريكي لاستضافة “مونديال” 2022، دون أن تنتظر أي عائد مادي من هذا الاستثمار الترفيهي الضخم وغير المسبوق، وبأن المملكة العربية السعودية أبدت استعدادها لاحتضان إحدى دورات الألعاب الأولمبية الشتوية المقبلة وشرعت بالفعل في التخطيط لإقامة مدينة لهذا الغرض في قلب الصحراء ستكون مجهزة بكل ما يلزم لتوفير الثلوج والجليد!!!
هل تعاني الساحة من غياب الرسامين المؤهلين؟
لا أعتقد ذلك، وزيارة خاطفة لمعارضنا الفنية ولمدارس الفنون الجميلة المنتشرة هنا وهناك ونظرة سريعة على قصصنا المصورة ورسوماتنا الكاريكاتورية كافيتان للوقوف على علو كعب رسامينا الذين يكفي أن نخلق لهم إطارا رسميا للاشتغال ليجزلوا العطاء.
هل هناك خصاص في الموارد البشرية المؤهلة تقنيًا للقيام بالمهمة؟
قد يكون الجواب بالإيجاب، لكن هذا مشكل يمكن تجاوزه بسهولة بتنظيم دورات تدريبية تحت إشراف الخبراء الدوليين المتخصصين في هذا النوع من الصناعة الترفيهية لفائدة كل من يرغب في ولوج هذا الميدان حتى يتعلم أصوله وقواعده ويستأنس بأدواته.
هل سوقنا محدودة؟
هذا غير صحيح، وسيكون من العبث التوسع في هذه النقطة بالذات.
فأين يكمن العجز إذن؟
إن الانخراط في هذا الفن المعاصر الصعب لا يتطلب الاستجابة للشروط العامة المعروفة فقط بل يتطلب أيضا شروطًا أخرى من النادر توفرها بمنطقتنا العربية، وحتى إذا ما توفرت فغالبا ما يندرج ذلك في باب الاستثناءات التي تؤكد القاعدة ولعل أهمها حب العمل والجدية والانضباط الذاتي وروح العمل الجماعي إضافة إلى النفس الطويل الذي أدى غيابه إلى توقف مسيرتنا الحضارية في وقت مبكر عندما استهوتنا إنجازاتنا العلمية الأولى، وعوض أن نستمر في العطاء توقفنا لمدحها وسلمنا المشعل للغرب ليواصل المهمة. وإلى يومنا هذا لا نمل من تذكير الناس أجمعين بأن عباس بن فرناس هو أول من حاول الطيران، بأن ابن النفيس هو من اكتشف الدورة الدموية الصغرى، وبأن جامع القرويين هو أول مؤسسة جامعية رأت النور في العالم… وبأنه لولا العرب لما وصلت أشعة الشمس إلى الغرب!!
وهكذا، لا أظن أني أفشي سرا عندما أثير الانتباه إلى أن العمل في عيون الناطقين بالعربية محصور في قيمته الاسترزاقية بالدرجة الأولى (وفي قيمتيه النفسية والاجتماعية بدرجة أقل) ما يفسر اجتهاد الجميع وبكل حماس وبشتى الطرق للوصول أساسا إلى جيوب الناس أو إلى خزينة الدولة، أما الإتقان والتميز وإثبات الذات وترك أثر طيب للخلف والرغبة في المساهمة في الارتقاء ببلداننا إلى مصاف الكبار فهذه دوافع تغيب تماما عن أذهان أفراد معظم الشرائح المهنية.
(...)
وما يسري على الرسوم المتحركة يسري أيضًا على الترجمة والبحث العلمي والبحث الأركيولوجي والأفلام الوثائقية وصحافة التحقيق ومجالات أخرى لا تلجها إلا النخبة من المتخصصين. فالحامل لعقلية الحد الأدنى غير مسلح بما يكفي من التركيز لترجمة ما معدله 100 صفحة على الأقل كل شهر من مؤلف أدبي أو تقني، ولا يتحلى بما يكفي من نكران الذات لسجن نفسه بمختبر في محاولة لفهم سر من أسرار الفيزياء أو الكيمياء أو علوم الحياة والأرض، ولن يغامر بالتربص بصقع من أصقاع القطب الشمالي أو غابة الأمازون أو الصحراء الكبرى لأيام وشهور بهدف استيعاب حيثيات التحولات المناخية والإيكولوجية التي يشهدها العالم، وليس له من الصبر ما يكفي للانغماس في الحفريات أو للوقوف أمام كاميرا وتتبع حركات وسكنات الحشرات أو رصد تحركات العصافير في الأجواء وتنقلات الأسماك في الأنهار والبحار والمحيطات وتتبع جرائم العصابات المنظمة بهدف فك خيوطها، كما أنه لن ينتظر ساعات وأياما ليتمكن في الأخير من تصوير حيوان مفترس وهو يجامع أنثاه أو على أهبة الانقضاض على فريسته.
لقد تركنا هذه المهام لبناة حضارة اليوم الذين أدركوا -وهم بعد طلبة- أن الاكتشافات والاختراعات والفتوحات العلمية والتدوينات الدقيقة والكتابات الرصينة، تمر حتما عبر الانضباط والاجتهاد المتواصل بل وحتى عبر الانعزال الاجتماعي، الذي يعتبره البعض ضريبة لا مفر من أدائها لتحقيق التميز والتألق في مجموعة من التخصصات. أما نحن، (...) فسنظل ننتظر فقط حلول وقت مغادرتنا لمقرات عملنا (...) لا غرابة إذن أن يدعي الإنجليز من باب التهكم علينا بأن حصاد مطابعنا العربية الإجمالي يكفي لسد حاجيات القارئ الإنجليزي النهم لمدة ستة أشهر لا أكثر!! (قد يكون في الأمر بعض المبالغة، لكن الأرقام المتوفرة كفيلة بتحديد حجم الهوة القائمة بين ما ننتجه نحن وما ينتجه الغربيون من عناوين).
وهذا الواقع بقدر ما يخدم عقليتنا الكسولة فإنه يخدم أيضا مصالح الأمم المنتجة التي وجدت فينا سوقًا لا تقدر بثمن. ولولا ما تختزنه أرضنا من نفائس، ولولا وجود نواة عمالية وتدبيرية صلبة تخلص في عملها بكل القطاعات لما استطعنا أن نلعب حتى دور المستهلك ولتحولنا إلى مجرد شحاذين بين الأمم.
(...)
وعلى سبيل الاستنتاج، يمكن الجزم بأنّ أمة بهذه العقلية من الطبيعي أن تعجز عن الانخراط في إنتاج الرسوم المتحركة ولو في صيغتها البدائية خاصة عندما نعلم أن ثانية واحدة -أقول ثانية واحدة- من شريط كرتوني تتطلب توفير 24 رسمًا في المعدّل!
فهل فهمت الآن، عزيزي القارئ، السبب الذي سيجعلنا دائما نكتفي باستيراد مسلسلات الرسوم الكرتونية مع الاكتفاء بدبلجتها في أحسن الأحوال؟.
المغربية ("هسبريس")