أصبح الازدهار الرَّقمي قبلةَ دول كثيرة حول العالم، لكنّه هدف لا يتحقّق في غياب التّركيز على الجانب البشري والتّنموي، فالمهارات الرّقمية باتت هي العملة الثّمينة في عالم الأعمال، ما يفرض على مؤسَّسات التّعليم والتّدريب إيجادَ مساراتٍ دراسيّةٍ وبرامجَ تأهيليّةٍ تتواءمُ مع احتياجات سوق العمل الجديدة.
في هذا السّياق، يزدادُ الاهتمام بتخصُّصات علوم البيانات وذكاء الأعمال والبرْمجة وعلوم الرّوبوتات والأمْن السّيبراني، إذْ ينخرط الشّباب في معسكرات تدريبيّة ومبادرات حكوميّة تستهدف بناء جيل مؤهَّل لِحَمْلِ راية التّغيير التِّكنولوجي في المنطقة. وتؤدّي الجامعات ومراكز البحوث دورًا محوريًّا في تنمية القدرات المحليّة من خلال تشجيع البحث العلمي وتطوير الشّراكات مع القطاع الخاص، فضلًا عن تبادُل الخِبرات مع المؤسَّسات الدولية. ومع ذلك، تظلُّ فَجْوَةُ المهاراتِ تحدّيًا بارزًا، إذْ ينبغي الحفاظ على وتيرة سريعة من التّطوير المهني والتأهيل التّقني لمواكبة التَّسارع الكبير في الابتكارات التِّكنولوجيّة.
الدّمج بين الإبداع التِّكنولوجي والاحتياجات البشريّة يُشَكِّل العنصر الأساسي في نجاح مشاريع التحوّل الرّقمي
في ظلّ هذا المشهد الشّامل، تبرزُ أيضًا مسألةُ التّعاون الإقليمي والعالمي، فقد شَهِدْنا مشاركةً متميّزةً لمنطقتنا في مؤتمرات دوليّة تُعنى بقضايا التِّكنولوجيا والابتكار، مثل المؤتمرات التّابعة للأمم المتّحدة التي تركِّزُ على التّصدّي للتصحّر والتغيّرات المُناخية، وهو ما يؤكِّدُ رغبةَ دول العالم العربي في أن تكون جزءًا أصيلًا من الجهود الدّولية لمواجهة التحدِّيات البيئيّة. ويُبَيِّنُ تخصيص 10 مليارات دولار من ضمْن مبادرة المجموعة العربيّة للتّنسيق بهدف مكافحة الجفاف والتصحّر أنَّ القرارات الاستراتيجيّة في مجال الاستثمار لم تعد مقتصرةً على الجانب الاقتصادي فحسب، بل تشْمل النّواحي البيئيّة والمُناخيّة، ما يعكس تغيُّرًا حقيقيًّا في عقليَّةِ التّخطيطِ والتّطوير.
من جانبٍ آخر، يُلاحَظ أنّ الذّكاء الاصطناعي التّوليدي يفتح آفاقًا واسعةً للتطبيقات العمليّة، سواء في مجال الخِدمات الحكوميّة أو تجربة العملاء في القطاعات الخاصّة. فالحكوماتُ العربيّة باتت تُوَظِّفُ المحادثات الآليّة وتكنولوجيّات التعلّم العميق للردّ على استفسارات المواطنين وإنجاز المعاملات الإداريّة في شكلٍ أكثر سهولة وسرعة، ما يعزِّزُ الثقة ويحدّ من البيروقراطيّة. وفي الوقت نفسِه، تستفيد المؤسَّسات الماليّة من خوارِزميات الذّكاء الاصطناعي في مجال إدارة المخاطِر ومكافحة الاحتيال وتوفير خِدمات شخصيّة للعملاء. ويبدو واضحًا أنَّ هذا الدَّمْجَ بين الإبداع التِّكنولوجي والاحتياجات البشريّة يُشَكِّلُ العنصر الأساسي في نجاح مشاريع التحوّل الرّقمي، إذ لا يكفي توفير بنية تحتيّة أو حزمة تشريعات، إنما يتطلّب الأمر رؤيةً شاملةً تجعل المواطن محور العمليّة التطويريّة.
ومِنَ المثيرِ للاهتمام أنَّ قطاع المشاريع النّاشئة يؤدي دورًا مهمًّا في رعاية الابتكار واستقطاب العقول الشابَّة. لقد باتت الحاضِنات والمُسَرِّعات في مختلف بلدان المنطقة ترعى عشرات المشاريع المعتمِدة على الذّكاء الاصطناعي والحوْسبة السّحابيّة وتحليل البيانات. ويؤدّي ذلك إلى بناء نظام بيئي حيوي يساعد على تبادُل الخِبرات وجذْب الاستثمارات الأجنبيّة، ولا سيّما مع تزايُد الاهتمام العالمي بالتِّكنولوجيا المنطلِقة من الشّرق الأوسط. وهنا تتكاملُ الجهود الحكوميّة والخاصَّة لدعْم هذه البيئة من خلال تقديم حوافز ضريبيّة وتسهيلات ماليّة وتأسيس صناديق استثماريّة تُخصِّص ميزانيّات كبيرة للشركات النّاشِئة. وهذا يعزّزُ التَّنافسيّة الإقليميّة وَيُوَلِّدُ فرص عمل جديدة في مجالات عاليَة القيمة، ويُساهم في انتشار ريادة الأعمال كثقافةٍ تدفع بالمجتمعات نحو الإبداع.
يبدو العالم العربي في طريقه إلى تعزيز مكانته كمركز عالمي للتِّكنولوجيا والابتكار
ومع انتقال الحديث إلى آفاق المستقبل، يتزايدُ الوعيُ بأهميّة الأخلاقيّات في توظيف الذّكاء الاصطناعي وضرورة وضع ضوابط تحكُم استخدام البيانات وتحمي خصوصيّة الأفراد. فالتحوُّلات الرّقمية السّريعة يمكن أن تثيرَ تساؤلات كثيرة حول حماية الحقوق الأساسيّة للمستخدمين وآليّات المُساءَلة. من هنا، يعملُ بعضُ الدّول لتطوير أُطُرٍ تشريعيّة متكامِلة لتنظيم الذّكاء الاصطناعي وضمان توافُقِه مع القِيَمِ المجتمعيّة والثقافيّة، ما يتطلب تضافرًا بين جهود المشرّعين وخبراء التِّكنولوجيا والمجتمع المدني. إنَّها عملية معقدة، لكنَّ نجاحها سيساهم في الحفاظ على ثقة الأفراد والمؤسَّسات في مسيرة التحوّل الرَّقمي.
وبالنّظر إلى تطلُّعات عام 2025، يبدو العالم العربي في طريقِه إلى تعزيز مكانته كمركزٍ عالمي للتِّكنولوجيا والابتكار، إذ من المتوقّع أن يشهد مزيدًا من الاستثمارات في البحوث والتطوير وتبنّي تِكنولوجيّات مثل الحوْسبة الكمّية والواقع المعزَّز والرّوبوتات الاجتماعيّة. هذه التوجُّهات قد تفتح أفقًا جديدًا لفرص عمل في مجالات تتطلَّب مهارات مُبْتَكِرَة وغير تقليديّة. وبالإضافة إلى ذلك، من المرجَّح أن يتَّسعَ نطاق تطبيق تكنولوجيا البلوكشين (Blockchain) في الحلول الماليّة وإدارة سلاسِل الإمداد والخِدمات اللوجِستيّة، ما يساهمُ في زيادة الشفافيّة والتقليل من التّكاليف والعمليّات الورقيّة. وإذا تمكَّنت دول المنطقة من تجاوُز المعوقات الراهنة المرتبطة بالبيئة التشريعيّة ونقص الكفاءات، فقد تشهد ولادة منظومات اقتصاديّة شاملة توظِّف التِّكنولوجيات الحديثة لخدمة كافة شرائِح المجتمع.
مرحلة مفصليّة في الشرق الأوسط للذكاء الاصطناعي الكلمة العليا في نجاحها ولن يتحقَّق ذلك إلّا بتفعيل طاقات الشّباب
وعلى الجانب الاجتماعي، يمكنُ للتِّكنولوجيا أن تؤدِّيَ دورًا إيجابيًّا في تمكين الفئات المهمّشة وتعزيز الشّمولية. فمن خلال منصّات التّعليم الإلكتروني وتطبيقات التّدريب الذّكية، يُمكن تقديم فرص تعليميّة جديدة إلى الشّباب والنّساء والأشخاص ذوي الإعاقة، بالإضافة إلى استخدام حلول الذّكاء الاصطناعي في وضع برامج تنمويّة أكثر استجابةً لاحتياجات المجتمع. أضف إلى ذلك أنَّ التوجُّه نحو الاقتصاد المستنِد إلى المعرفة سيفسِح المجال أمام المجتمعات لإطلاق طاقاتها الإبداعيّة وتطوير حلول محليّة لمشاكلها الخاصَّة، بدلًا من الاعتماد المستمرّ على التِّكنولوجيا المستوْرَدة. هذا التحوُّل في العقليّات يُعَدُّ أحد أكبر العوامل التي قد تساهِم في استدامَة مسيرة الابتكار والتّطوير.
هكذا، يتّضح أنَّ الشّرق الأوسط يستعدّ للدخول في مرحلة مفصليّة من تاريخه، تَتَّحِدُ فيها الرُّؤَى التنمويّة مع الإمكانات التِّكنولوجيّة لتقديم نموذجٍ متطوّرِ في إدارة الموارِد ورعاية الإبداع وتحسين جودة الحياة. الذّكاء الاصطناعي، إلى جانب التِّكنولوجيات الناشِئة الأخرى، ستكون له الكلمة العليا في تحديد مدى نجاح هذه المرحلة، ولن يتحقَّق ذلك إلّا بتفعيل طاقات الشّباب وتقديم الحوافز الملائِمة إلى الشّركات الصغيرة والمتوسطة، وتعزيز البيئة الحاضِنة للبحث والابتكار. وإذا استمرَّت الحكومات والمؤسَّسات في العمل بتنسيق وثيق، وتركيز على الجانب الإنساني، والاستثمار في بناء القدرات البشريّة، وتطوير بنية تحتيّة رقميّة راسخة، ووضع سياسات تنظيميّة متوازنة، قد تحمل السّنوات المقبلة تحوُّلًا تاريخيًّا يضع المنطقة في موقع الرّيادة على الخريطة العالميّة. ومن يدري، فقد نشهدُ خلال العقْد المقبل موجةً من المُنجزات التي تغيِّر نظرة العالم إلى العالم العربي، لا بوصفِه مصدرًا للثروات الطبيعيّة فقط، بل كبيئة حاضنة للابتكار والتّجديد التِّكنولوجي المُسْتَدام.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")