هذه البدائل كلها لم تكن محلّ ارتياح أو قبول لدى تيودور هرتزل وهو يدعو من مؤتمره في بازل في سويسرا الى وطن قومي لليهود، ولا هي صادفت قبولًا لدى آرثر جيمس بلفور، وزير الخارجية البريطاني، وهو يعلن في بدايات القرن العشرين أنّ حكومة جلالة الملكة تنظر بعين العطف الى الرّغبة اليهودية في أن تكون لليهود دولة.
ربّما يستغرب قارئ هنا أو آخر هناك أنّي أشرت في بدء الكلام إلى فلسطين، وأنّ الإشارة لم تكن إلى غزّة ولا الى الضّفة الغربية، وقد قصدتُ هذا تمامًا لأنّ العُرْفَ جرى في الإعلام على أن يُشار الى قطاع غزّة مرّة، أو أن يُشار الى الضفّة الغربية مرةً ثانية، أو أن يُشار إليهما معًا في مرّة ثالثة. وهذا الطرح الثالث هو ما يحدث في أحسن الأحوال، ومن النّادر أن يُشار الى فلسطين باعتبارها الوعاء الجامِع لغزّة والضفّة وسواهما من الأراضي المحتلة.
لا بدّ أن ننتبه إلى أنّ القضية هي قضية فلسطين لا قضية غزّة وحدها ولا قضية الضفّة بمفردها
فمنذ بدء الحرب الإسرائيلية التي حوّلت القطاع الى كومٍ كبيرٍ من التراب والأنقاض، كان الحديث لا يدور إذا دار إلّا عن غزّة، وإلّا عمّا سُمي "اليوم التالي" فيها، وإلّا عمّن سيحكم القطاع عندما يأتي أوان هذا اليوم التالي.
وكان ذلك في الجانب الأهمّ منه ظالمًا للضفّة لأنّه كان يعمل على تغييبها عن الصّورة، ثم كان الأخطر في الأمر أنّ هذا الطّرح الناقص كان يختزل فلسطين في غزّة، فكأنّ القضية في الأراضي المحتلّة قد ضاقت حتى لم تعد تتّسع لأكثر من غزّة، أو كأنّ الفلسطينيين لا وجود لهم خارج هذه الرقعة من الأرض على شاطئ المتوسط، أو كأنّه لا توجد قضية فلسطينية أوسع في مفهومها من غزّة في حدودها.
حتّى عندما بادر الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالطرح التعيس عن نقل أبناء القطاع إلى هذه الدولة أو تلك في المنطقة أو خارجها، فإنَّه حصر كلامه في حدود القطاع، وقال بشكل عابر إنّه سيعود الى الضفّة في حديث آخر لاحق. وكان كلامه حلقة من حلقات تتواصل وراء بعضها البعض، ويُراد بها أن تكون غزّة قصة، وأن تكون الضفّة قصة أخرى، وألا تكون قصة فلسطين نفسها كمفهوم أوسع موجودة أو مطروحة!
وإذا جاز أن يُروِّج الإعلام في الغرب لهذا الفصل عن قصْد، أو يروّّجه بعض إعلامنا عن عدم دراية بأبعاد الترويج من هذا النوع، فلا يجوز أن تمرَّ علينا المسألة هكذا طول الوقت، ولا بُدَّ أن ننتبه إلى أنّ القضية في الأراضي المحتلة هي قضية فلسطين، لا قضية غزّة وحدها، ولا قضية الضفّة بمفردها... هي قضية فلسطين الوطن، وفلسطين الدّولة المستقلة حين تقوم، وقضية فلسطين التي عاصمتها القدس الشرقيّة عندما تكون لها عاصمة.
لا خيار أمامنا سوى أن ننتصر للعروبة كفِكرة وأن يتجلّى هذا الانتصار في الوعي بأصل القضيّة
الوعي العام لا بديل عن أن يكون بالقضيّة الأم، لا بتفصيلاتها التي تأخذ النّاس بعيدًا عن إطار الصّورة، وبعيدًا عن المضمون الذي لا بدّ أنّه قائم وماثل في هذا الإطار.
سوف تمرّ عاصفة نقل أبناء القطاع كما مرّت عواصف عليه من قبل، ولكن الأهمّ أن ننتبه كعرب الى أنّ هذه العاصفة استهدفت القلب في أرضنا العربيّة، وأنَّ عواصفَ مثيلة تتالت على منطقة القلب هذه من أيام النّكبة إلى اليوم، وأنّ فكرة العروبة تجد نفسها محلّ اختبار كما كانت محلّ الإختبار ذاتِه في مرّات من قبل، وأنّه لا خيار أمامنا سوى أن ننتصر للعروبة كفِكرة، وأن يتجلّى هذا الانتصار في الوعيِ بأصْل القضيّة في الأراضي المحتلّة.
(خاص "عروبة 22")