وفقًا لشرائط الدمّ هذه، رسّم المستعمرون دول المنطقة ودقّوا فيها أسافينهم الصدئة. وفي حالة الوطن العربي بعد اتفاقية "سايكس بيكو"، باتت مهمة أنظمة وحكّام ونخب عربية منصبّة على حراسة حدود خطوط التقسيم التي أنتجتها مقصّات الترسيم. وبدا واضحًا حجم تراجع مفهوم وفكرة الدولة القومية، لصالح الدولة القُطرية. وباتت الوحدة الوطنية خطّ الدفاع الأخير لغالبية دولٍ لطالما حلمت ونادت بالوحدة العربية.
وبات جليًّا أنّ لمقصّات ما بعد سايكس بيكو تداعيات أعمق، تتمثّل في إعادة تقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ، وهذا ما أفصح عنه قانون الكونغرس لإعادة تقسيم العراق وأنّ تكريس أقاليمه الثلاث بات وشيكًا. أمّا استراتيجية بايدن العشرية الخاصة بليبيا وما حولها، والتي أطلقت في آذار/ مارس الماضي، فتستهدف عدّة بلدان أفريقية من دول الساحل إلى المحيط الأطلسي، أي دول النفوذ الاستعماري لفرنسا.
إنقلاب النيجر شكّل منعطفًا مفاجئًا لاستراتيجية بايدن العشرية
استراتيجية بايدن العشرية هذه، ترتكز على تنمية وتطوير الجنوب الليبي سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، بحجّة القضاء على التهميش المزمن فيه والإرهاب الذي أطلّ بزخم جديد من مالي إلى النيجر التي أصيب جنودها بمقتلة منذ أيام، إلى سوريا والعراق. أمّا حقيقة الأسباب الأمريكية التي تقف خلف الاهتمام بالجنوب الليبي، فلأنّه يكتنز حقول النفط والطاقة، فضلًا عن المناجم التي وضع نظام القذّافي الدراسات المعمّقة حولها دون المساس بها، لأنها ملك احتياطي للأجيال المقبلة. كما ولأنّ الجنوب منبع "النهر الصناعي العظيم" الذي يروي مدن ليبيا وأريافها بالمياه العذبة. وتاريخيًا يُشكّل الجنوب بوابة أفريقيا، وممرّ القوافل التجارية باتجاه مصر وبلاد الحرمين في الحجاز وبالعكس. وحاليًا يُشكّل أحد زوايا ما يُعرف بمنطقة "المثلّث" في الصحراء الكبرى مع الجزائر والنيجر، ويُقابله ما يسمّى بـ"مثلّث الموت" بين حدود مالي وبروكينا فاسو والنيجر والذي يُعتبر معقلاً للتنظيمات المتطرّفة التي تتلطّى القواعد الأمريكية والفرنسية وراء محاربتها. وفي هذين المثلّثين المتصلين تنشط قوافل تهريب السلاح والمسلّحين والمخدرات والمهاجرين والاتجار بالبشر.
إنقلاب النيجر الذي خطف الأضواء حتى عن الحرب في أوكرانيا، شكّل منعطفًا مفاجئًا لاستراتيجية بايدن العشرية المعروفة بمرونتها، والتي تسمح بنيتها بتعديلها كلما اقتضت الظروف ذلك. وقد شكّل موقف الجزائر الرافض للتدخل العسكري صفعة مضافة لخسارة فرنسا لموقعها اليورانيومي في النيجر، كما شكّل إضعافًا لسعي منظمة الإيكواس، واجهة فرنسا في غرب أفريقيا، للتدخل العسكري ضد انقلابيي النيجر الذين أعلنوا التعبئة العامة وتجنيد المتطوعين لمواجهة الحرب المحتملة. وبات وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن بعد لقاء نظيره الجزائري أحمد عطّاف في واشنطن يتبنّى المقاربة الجزائرية ويطالب بالحلول الدبلوماسية لا العسكرية.
بات معلومًا أنّ انقلاب النيجر، أخذ يثبّت أقدامه. أولًا، عبر الالتفاف الشعبي للتحرّر من فرنسا. ثانيًا، بتشكيل حكومة وُصفت بالتوافقية في تمثيلها لكلّ المكوّنات الاجتماعية. ثالثًا، بدعم جارتَي النيجر مالي وبوركينا فاسو وتحييد تشاد لنفسها عن الحرب ضدها. رابعًا، بتراجع الإيكواس نحو الديبلوماسية الدينية والقبائلية. خامسًا، باستقباله مساعدة وزير الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند، وأيضًا لسفيرة أمريكية جديدة، فضلًا عن حوار عميق يخوضه المجلس العسكري مع واشنطن حول ترتيبات قيد الاستكمال. سادسًا، بالإعلان عن أدلّة قانونية لمحاكمة الرئيس المعزول محمد بازوم وبعض مساعديه بحجة الخيانة العظمى والتآمر مع الخارج ضد النيجر. ما يعني أنّ شوكة المجلس العسكري وقدرته التفاوضية باتت أقوى من قبل.
في المقابل برز حراك لافت لقيادات من ثورة الطوارق في النيجر، تمثّل بالإعلان عن تأسيس "مجلس المقاومة من أجل الجمهورية" الذي هدّد بالذهاب إلى الحرب والقيام بعمل مسلّح من أجل عودة "النظام الدستوري" في النيجر.
توجّس من احتمال ملاقاة طوارق الجزائر وليبيا وتشاد لطوارق مالي والنيجر
إعلان بعض طوارق النيجر تضامنهم مع بازوم، قابله إعلان آخر من طوارق وعرب إقليم أزواد في شمالي مالي الذين هم في صراع مع حكومات مالي المتعاقبة منذ ما قبل استقلال مالي التي كانت قبل 1200 عام امبراطورية كبرى لديها برلمان وجيش ومنهج تعليمي وجامعات عريقة خصوصًا في تمبكتو، فضلًا عن اقتصاد حقيقي وخزانة مالية، وخط قوافل الإبل التجارية برعاية الطوارق من غرب أفريقيا إلى البحر المتوسط. وعندما وصل الاستعمار الفرنسي بحثاً عن المواد الخام، عطّل الاقتصاد. ولإدارة هذه التجارة استجلب لبنانيين ويونانيين، ثمّ استتبع المستعمر الفرنسي مشروعه بقتل (ذبح) نحو خمسة آلآف من علماء الإسلام ومدرّسي اللغة العربية، بحسب عدة مصادر، بينهم الكاتب الصحفي البلجيكي ميشال كولون.
بالعودة الى طوارق وعرب أزواد فتصميمهم قويّ على إنشاء دولتهم في إقليمهم الذي يضمّ نصف مساحة مالي، وقد عبّرت تنسيقيات الأزواد عن رفضها لدخول مجموعات "فاغنر" مع قوات مالي، واعتبرته بمثابة استبدال استعمار فرنسي، بآخر روسي. ولهذا هدّد الأزواد بمهاجمة القوات المالية والفاغنرية دعمًا لإعادة بازوم (العربي) لكرسي النيجر. ما دفع مؤيدي الإنقلاب لاعتبار موقف الأزواد والطوارق يحمل بصمات فرنسا التي يبدو أنّها وقعت في شرّ ما توجّست منه، وهي ترى نفسها منبوذة من الأفارقة الذين أخذوا يلوّحون بأعلام روسيا وصور بوتين نكاية بها.
أمّا الجزائر التي ترعى اتفاق سلام بين الأزواد وحكومة مالي، فأخذت تتوجّس من دعوات انفصال الأزواد لإنشاء دولة جديدة من شأنها العبث بالخريطة الجغرافية والديموغرافية لدول الساحل برمتها. توجّس يحتمل ملاقاة طوارق الجزائر وليبيا وتشاد مع طوارق مالي والنيجر، لتكون منطقة الصحراء الكبرى التي باتت معقلًا كبيرًا للحركات الإسلامية المتطرّفة "دولة الطوارق"، في وضع متطابق مع توزّع الأكراد بين سوريا والعراق وتركيا وإيران.
وقد كان لافتًا اعتبار رئيس الجزائر ورئيس الأركان الجزائري ومعهما الرئيس الروسي أنّ المخاطر الكبيرة المحدقة بمنطقة الساحل هي نتاج طبيعي لعدوان الناتو على ليبيا عام 2011. بهذا المعنى بات مُلحًّا القول إن القذّافي كان الأقدر على فهم كيمياء الطوارق والتفاعل الإيجابي معهم، ولهذا لم يتنكّروا له عندما سقطت دولته، ولم يبدّلوا رايته، وبقوا أوفياء للقب "أمغار الطوارق" الذي أطلقوه عليه. لكل هذه الأبعاد الاسترالوجية عمدت فرنسا، ومعها حلف الناتو بقيادة خلفية من واشنطن يومذاك، إلى تمزيق القذّافي، كمحطة وجودية لاستدامة استعمارها المقنّع لشمال أفريقيا وغربها. ويبدو أنّ الفرنسيين خاصّة قرأوا جيدًا أكثر من العرب، أبعاد "خريطة الجنس العربي" التي طوّرها القذّافي لتضيف لخريطة البلاد العربية كل من، شمالي مالي، وشمالي النيجر، وشرقي تشاد، وشرقي إثيوبيا، وعدة مناطق من ارتيريا، فضلًا عن لواء إسكندرون والأحواز العربية. خريطة، جهد ليضعها ضمن إطار جيوسياسي قارّي اسمه "الاتحاد العربي الأفريقي" سبق وعرضه على القمّة العربية رغم قناعته بعدم تلقف العرب للفكرة وإقرارها.
بدون شك، سيكون للحرب التي حدّدت الإيكواس موعدها تداعيات خطيرة على خرائط دول منطقة الساحل وشمال وغرب أفريقيا، توازيًا مع نيّة واشنطن سحب قواتها وقاعدة مسيّراتها من أغاديز.