ليس معنى الحوار السياسي أن تكون هناك مناظَرة أو تفاوض تقليدي أو حوار مبتذل حول المُختلف عليه. إنّما هو انبِناء معقّد تنبع طبيعته من نوعيّة العلاقة بين الدّولة والمجتمع، وبين الدّولة والدّول الأخرى، يُؤطِّره نسق متوارَث في نظام الحكم وعلاقات الأفراد من داخل المجتمع نفسه.
قوى تسعى إلى التحيّز والهيمنة جعلت من الحوار السّياسي أداةً لتوجيه الدّول المغلوبة وإخضاعها بما يوافق مصلحتها
كلّما كانت هذه التقاليد تفقد جذورها المرجعيّة المتنوّرة وأُسُسها الديموقراطية، ظلّ الحوار السياسي لعبة مُسيَّسة وفارغة، فاقدة لمشروعية الاستدامة والإنجاز التّنموي. وهذا ما ألمح إليه الفيلسوف الأميركي جون راولز وهو يتحدّث عن مفهوم العدالة الشّاملة بتأكيده على أنّ الحوار السياسي هو تلك الآليّة الواقية للعدالة من سقوطها في التحيُّز، كلّما كانت هذه الآليّة نفسها سليمة وعادلة. لم يتْرك أحد من الغالبين ومن المغلوبين، من المتعصّبين والمتطرّفين، ومن الحداثيّين والمتنوّرين، مَنْ لم يلجأ في معاركه أو اعتداءاته أو دعاواه، إلى الاحتماء بالحوار السّياسي واعتباره حلًّا للأزمات وإحلالًا للسّلام.
غيْر أنّ واقع "اليومي السيّاسيّ" باصطلاح الفيلسوف الفرنسي آلان باديو وهو يتابع ما يقع في العالم وفي منطقة الشّرق الأوسط على وجه الخصوص، يكشف عن قوى تسعى إلى تسييس الحوار من منطلق التحيّز والهيمنة، وليس برغبة إيجاد الحلول للأزمات بين الدّول وداخل المجتمعات وفقًا لالتزاماتها بمواثيق حقوق الإنسان. بل إنّ هذه القوى جعلت من الحوار السّياسي أداةً لتوجيه الدّول المغلوبة وإخضاعها بما يوافق مصلحتها، وهذا ما نلحظه في مسار التّطبيع مع الكِيان الصّهيوني، أو بما يوافق استراتيجيّتها على المدى المتوسط والبعيد، كخلْقها لتوتّرات مصنوعة، ثمّ دعوتها الأطراف المتنازعة لحوار مغشوش حدّدت موضوعه وشروطه قبلًا حتّى يفْضي إلى نتائج معكوسة. ولنا في ذلك أمثلة كثيرة من واقع بلادنا العربية كما هو الشّأن في العراق وسوريا واليمن والسّودان وغيرها.
دعا آلان باديو إلى التأمّل في العدد الذي يُحصى من الحوارات والمفاوضات والمؤتمرات، في مقابل انتعاش الحروب وانهيار الدّول الوطنيّة. إذن، الثّابت أنَّ هناك عطبًا فيما بات يُطلق عليه بالحوار السياسي الذي تقوده الدّول الغالبة. ذكر تيودور أَدُورْنُو أبرز أعضاء مدرسة فرانكفورت، أنّ الحوار السيّاسي مجرّدًا من قيمته الأخلاقية والإنسانية يدفع الحوار في حدّ ذاته إلى أن يكون إيديولوجية صمّاء، لا تجعل من السياسة كما هي طبيعتها سبيلًا للتّوافق وحلّ الخلافات، وإنّما أداةً للإخضاع والهيمنة نظرًا لافتقادها شرط العدالة والإنصاف.
تَعدُّد التيّارات والفصائل المسلّحة خاصّية عربية طارئة استحدثها الأميركي لشحن المشهد السياسي بأجندات خاصّة ومتعدّدة
وبالانعطاف إلى طبيعة الحوار السياسي في البلاد العربيّة، نلاحظ أوّلًا أنّ دولها المغلوبة لا يؤطِّرها نسق سياسي ديموقراطي له ثقافة متجذّرة في الدّولة نفسها والمجتمع، مما يجعل حوارها مع الغالب ليس إلاّ نوعًا من التلقّي والتوجيه تحدّده خريطة طريق محسومة سلفًا. ومن ثمّة لا يكون النظام السياسي في الدّول العربيّة مُحاورًا، بَلْ مُتلقٍ فقط. كما حدث معها في الحرب ضدّ غزّة حيث وقفت مشلولةً أمام الحدث، ولم تُحرّك ساكنًا في سياق البحث عن صيغ لإيقاف الحرب إلّا بإملاءٍ أميركي كما هو معروف.
من جهةٍ ثانية، لم يكن تعدّد التيّارات والفصائل المسلّحة، إلاّ خاصّية عربية طارئة لا مثيل لها في باقي مناطق العالم، استحدثها الأميركي لتعقيد المشهد السياسي وشحنه بأجندات خاصّة ومتعدّدة، حتّى يكون الحوار السياسي شبه مستحيل إلّا بما تمليه عليها من أوامر وتوجيهات. من هنا لم يعد تعطيل الحوار السياسي أو مسْخه في البلاد العربية حصيلة دولة فقط، وإنما هو حصيلة مجتمع أيضًا.
(خاص "عروبة 22")