إذا كانت التقارير الدّولية، ومنها التقرير السنوي لمنظمة الشّفافية الدّولية التّي وضعت مقياسًا من مائة درجة يشير إلى الدول الأقلّ فسادًا وأدناها، تسعى إلى رصد المؤشّرات السياسية والاقتصادية والحقوقية في اعتمادها لترتيب شفافية الدول، فإنّ هذا الرّصد يظلّ في مجمل حصيلته عموديًا وكثيرًا ما تعوزه الإحاطة الشّاملة، لأنّ العُدّة المنهجية التي يستند إليها آلية من الدرجة الأولى، وهذا ما جعل هذه التقارير، حسب الاقتصادي توماس بيكيتي، غافلة عن الحقيقة بنسبة خمسين في المائة، لأنّها تفتقد إلى النسقية ويغيب فيها مبدأ البحث في الترابط السببي بين المكوّنات التّي أفرزته.
بيئة حاضنة لآفة الفساد، لا يتوقّف سببها السياسي والثقافي على نوعية نظام الحكم فقط بل يتعدّاه إلى بنية المجتمع
يترتّب عن اعتماد ظاهر المكوّن الواحد في فهم ظاهرة الفساد حكمًا منقوصًا لا يصلح أن يكون من قبيل الحلول الناجعة والفعّالة، لأنّ هذه الظّاهرة معقّدة ومتداخلة تقتضي مقاربة متعدّدة الرّؤى والمنهجيات. إذا كان الفساد ظاهرة عالمية تستبدّ بثلثي دول العلم، وأنّ درجة هيمنتها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مقلقة، قد أوقعتها في مؤخّرة درجات التّنمية وفي مقدّمة بؤر النّزاع والعنف، فهذا يعني أنّ هناك بيئة حاضنة لهذه الآفة، لا يتوقّف سببها السياسي والثقافي على نوعية نظام الحكم ورجالاته فقط، بل يتعدّاه إلى بنية المجتمع الذّي طبّع أفراده مع الرّيع بحثًا عن الاستنفاع الذّاتي بكلّ أشكاله وقبول الحلول الفردية كيفما اتّفق.
كشف وباء كوفيد، حسب دراسة أنجزها المركز الأوربي للظرفيات الاقتصادية في أوروبا، أنّ هناك انقلابًا كارثيًا على القيم الجماعية التّي تراكمت بعد الثورة الفرنسية وعصور الحداثة التي جعلت من الشرط الإنساني للفرد مدخلًا لمصلحة الجماعة، إذ لوحظ غياب التضامن بين الأفراد في المجتمعات وبين الدول نفسها، ممّا جعل مؤشّر المواطنة ومفهوم الإتحاد الأوروبي مثلًا، مجرّد شعارات أصبحت مع تطوّر العالم والتكنولوجيا مجرّد يوتوبيا تنتمي إلى عالم قد انتهى.
لم نتساءل عن كلفة انهيار القيم من النّاتج الإجمالي المحلّي في مجتمعاتنا وانحسار مبدأ التّضامن فيها
وحسب هذه الدّراسة، يُعتبر تفكّك قيم التضامن والمواطنة مجالًا لتبرير ممارسة الفساد وشرعنة الأنانيات والرّيع. لذلك قدّرت أنّ آفة انحسار المواطنة في أوروبا تكلّف اقتصادها من 4 إلى 6 في المائة من النّاتج الإجمالي المحلّي. أي أكثر ممّا يكلّفه الفساد الذّي لا يتعدّى 2 في المائة، وهذا ما لم تُشر إليه التقارير الدولية للشفافية. أمّا في البلاد العربية، فصحيح أنّ الفساد يكلّف اقتصادها من 2 إلى 4 في المائة من النّاتج الإجمالي المحلّي، لأنّ اقتصادها ليس حرًّا ولا يُينى على علاقات الطلب والعرض والشّفافية، وأنّ هناك أشخاصًا وعائلات ولوبيات تستحوذ على الثروة وتحتكر الحكم عن طريق جمعها بين المال والسّلطة. ولكنّنا لم نتساءل عن كلفة انهيار القيم من النّاتج الإجمالي المحلّي في مجتمعاتنا وانحسار مبدأ التّضامن فيها.
إنّ فهم الفساد في بلادنا العربية، اعتمادًا على ما تقدّمه تقارير المنظّمة الدّولية للشّفافية، وبمعزل عن قياس درجة المواطنة وكلفة تقلّصها الشّديد، فضلًا عن خاصّية القيم وتمثّلات الفرد لنوعية المصلحة التّي يتطلّع إليها، يظلّ قاصرًا وغير ذي جدوى في البحث عن الحلول لاجتثاث هذا السرطان من جذوره. بالتّأكيد أنّ الفساد في البلاد العربية مرتبط أساسًا بأنظمتها السياسية؛ ولكن جذر الآفة يكمن في تطبيع أفراد المجتمع العربي مع نزوة الخلاص الذّاتي، ومن ثمّ قبول واقع الفساد والتّعايش معه كثقافة ثابتة في الدولة والمجتمع. هنا فقط، مكمن الهلاك والاندحار الشّامل.
(خاص "عروبة 22")