تقدير موقف

مشروعات التهجير والاستيطان الاستعمارية: التاريخ الأسود!

إنَّ طمع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في غزّة ذات الموقع الرّائع المطلّ على البحر، كما يصفها بلغة سماسرة العقارات، ومشروعه لترحيل سكّانها واستبدالهم بمستوطنين من أنحاء العالم، ما هو إلّا امتداد لتاريخ طويل وأسود من مشروعات الاستعمار الغربي للتطهير العِرقي والاستيطان والإحلال البشري الذي استهدف أفضل بلدان العالم من حيث المناخ والموارد والموقع من دون الاكتراث لحقوق الشّعوب الأصليّة.

مشروعات التهجير والاستيطان الاستعمارية: التاريخ الأسود!

لقد تمّ تغيير شكل العالم الحديث إلى حدّ كبير عبر عمليات التطهير العِرقي والاستيطان الذي نفَّذته القوى الاستعمارية الغربية، والتي تعاملت مع البشر كأشياء أو آلات يمكن تدميرها أو نقلها بهدف تحقيق الرّبح ومصالح الدول الغربية أو أساطيرها الدّينية.

نجح المشروع الإبادي الاستيطاني الغربي نظرًا للكثافة السكّانية الضئيلة للسكّان الأصليين وضعفهم الحضاري

فالولايات المتحدة نفسها بُنِيَتْ على إبادة وطرد الهنود الحمر وحتى نشر الأوبئة بينهم للقضاء عليهم وإحلال المستعمرين البيض محلّهم، وبعدما قضى الأميركيّون عليهم جلبوا الأفارقة واستعبدوهم واستغلّوهم في بناء الجنوب الأميركي، وتكرّر الأمر في أستراليا وأميركا اللّاتينية، ولقد نجح المشروع الإبادي الاستيطاني الغربي بالعالم الجديد نظرًا للكثافة السكّانية الضئيلة للسكّان الأصليين وضعفهم الحضاري والأهم بسبب تأثير أوبِئة العالم القديم المدمّر فيهم، ولكن في آسيا وأفريقيا كانت هذه المشروعات أقلّ نجاحًا.

ففي جنوب أفريقيا، استوطن البيض البلاد ذات الموقع الاستراتيجي والمناخ الخلّاب والموارد الهائلة، مسبّبين قرونًا من المآسي للسكّان الأفارقة قبل اندِحار المشروع بفضل المقاومة الوطنية للسكّان.

وفي ماليزيا، جلب البريطانيون الصّينيين والهنود، كعمالة رخيصة ومطيعة لاستغلال الموارد من القصدير والمطّاط، وتعزيز السيطرة على البلاد ذات الموقع الاستراتيجي عبر سياسة "فرِّق تسُد" لتعزيز الانقسامات بين المجموعات العِرقية.

ليتحول السكّان الأصليّون من الملايو المسلمين من أغلبية إلى أقلية، حيث كانوا يشكّلون نحو 63% من سكان البلاد عام 1901 ثم تراجعت نسبتهم بحلول عام 1957 إلى 49.7%، بينما وصلت نسبة الصينيين إلى 37.2% والهنود إلى 11%، وكان يمكن أن تكون نسبة الملايو أقلّ لولا هجرة الملايو والشعوب المسلمة المشابِهة من إندونيسيا في الثلث الأول من القرن العشرين للبلاد.

أدّت هذه السياسات لسيطرة الصينيين والهنود على جزء كبير من الاقتصاد، وتهميش السكان الأصليّين وهي مشكلة تعاني منها ماليزيا حتّى اليوم على الرَّغم من تقدّمها الاقتصادي وسياسات الحكومة المحابية للملايو.

وكان يمكن أن تتحوّل ماليزيا لدولة عنصرية يسيطر عليها الوافدون، بخاصّة الصينيون، لكنّ خشية بريطانيا من تأثّر الصينيّين بالشيوعيّة التي سيطرت على الصين القاريّة، جعلها تترك السلطة بيد الملايو خلال فترة الاستقلال، إضافة للروح القومية للملايو، وعلى الرَّغم من ذلك عانت البلاد من تبعات هذه السياسات الاستيطانية والتي كانت أولها انسلاخ سنغافورة ذات الغالبية الصينية عن البلاد، والمفارقة أن قادة الاستقلال من الملايو هم الذين طردوا سنغافورة من الاتحاد الماليزي بسبب الثقل الصيني فيها.

وفي انتخابات عام 1969، خسِر تحالف المنظمة الوطنية الماليزية المتّحدة الممثّل للملايو الأغلبية لصالح صعود الأحزاب الصينية، الأمر الذي نُظِرَ له من قبَل الملايو بأنه محاولة صينية للسيطرة على الحكم وأدّى ذلك لأعمال عنف قُتل فيها المئات أغلبهم من الصينيين، بعد ما قيل عن استفزازات صينية للملايو بما في ذلك رفع شعارات مثل "عودوا للغابة أيها الملايو"، وتبع ذلك إعلان حالة الطوارئ وتولّي حكومة جديدة بقيادة حزب الملايو UMNO أعادت هيكلة النّظام السياسي والاقتصادي لتعزيز دور السكان الأصليين.

وفي أوروبا، نفّذ الإسبان أول عملية إبادة جماعية وإحلال استيطاني بالعصور الحديثة بحق الأندلسيّين، وكرّر الروس الأمر مع الشركس وتتار الفولغا والقرم المسلمين.

كان الوهم المسيطر على صُنّاع المشروع الصهيوني أنّ الأجيال الجديدة من المهجّرين الفلسطينيّين ستنسى القضية

أمّا في العالم العربي، فلقد كان الهدف الأساسي لاحتلال فرنسا للجزائر، هو جعلها بديلًا استيطانيًّا للمستعمرات الفرنسية المفقودة في أميركا الشمالية، وكان هذا أحد أسباب الوحشيّة الفرنسية في قمع المقاومة الجزائرية في القرن التاسع عشر بهدف إبادة الشعب الجزائري، حيث راهن الفرنسيون على أنّ خليط الإبادة والتجويع والتهجير والاستيطان كفيل بتحويل الجزائر إلى فرنسا ما وراء البحار، ولكن الكثافة السكانية المرتفعة للجزائريّين وعودة عدد السكان للنمو بعد موجات الإبادة الأولى وغياب الحافز لدى الفرنسيين للهجرة عكْس معظم الدول الأوروبية الأخرى بسبب وفرة الأرض الزراعيّة في بلادهم، أفشل المحاولة وجعل جزءًا كبيرًا من المستوطنين يأتي من إيطاليا وإسبانيا إضافةً لتجنيس يهود الجزائر، ونتيجة لذلك بلغ عدد المستوطنين الأوروبيين في الجزائر عشية الاستقلال عام 1962 نحو 1.6 مليون نسمة، يُمثّلون 15.2% من إجمالي السكّان، ووفّر ذلك التّربة اللّازمة لحركة الاستقلال.

ومن مشروعات الاستيطان الخطيرة التي فكّرت بها بريطانيا في العالم العربي، تهنيد العراق (أيْ توطين الهنود) التي اقترحها مكتب الهند بالحكومة الاستعمارية البريطانية، عقب الحرب العالمية الأولى وكان أحد أسباب فشل المشروع ثورة العراقيّين ضدّ الاحتلال البريطاني.

كما وطَّن الإيطاليون سكان جنوب بلادهم في ليبيا، وأطلقوا عليها اسم "الشاطئ الرّابع لإيطاليا"، وبلغت نسبتهم نحو 12% من السكان، ولكن المشروع فشل بفضل المقاومة الليبيّة، والصعوبات الجغرافية إضافةً لهزيمة روما بالحرب العالمية الثانية، أمّا الفرنسيون فقد شجّعوا توطين الأكراد الذين طردهم كمال أتاتورك من تركيا في شمال شرق سوريا.

ولكن المشروع الأبرز للتهجير والإحلال، كما هو معروف هو المشروع الصّهيوني، وكان تهجير الفلسطينيّين خلال النّكبة هدفًا مركزيًّا نفِّذ عبر المذابح المعروفة، وكان الوهم المسيطر على صنّاع هذا المشروع أنّ الأجيال الجديدة من المهجّرين الفلسطينيّين ستنسى القضية، بعد توطينهم في الدول العربية، ولكن أبناء المهجّرين خرج منهم قادة النّضال الفلسطيني، وتحوَّل اللاجئون الفلسطينيون لعامل محفِّز لمناهضة الاستعمار بالمنطقة العربية، وبعد 76 عامًا من النّكبة، فإنّ أحفاد المهجّرين، نقلوا قضيتهم لأصقاع الأرض وهم متمسّكون بحقّ العودة، وحوَّلوا قضيتهم من هَمّ عربي إلى قضية عالمية، في حين أنّ الباقين على الأرض، صمَدوا أمام واحدة من أشدّ الحملات العسكرية وحشيّةً في التاريخ.

المخطّطات التي تُحاك للمنطقة لو نجحت مع شعب عربي فإنها لن تتوقف عنده

إنّ خطورة مشروع ترامب تكمن في سعيه لاستغلال الأوضاع المأساوية للغزّاويين لإغرائِهم بالهجرة، ولكن يمكن وأده عبر تعزيز الصّمود الفلسطيني، بتوفير الدعم العربي اللازم، وهو أمر يبدو أنّه في طريقه للتحقّق في ظلّ هبَّة عربية رافضة لهذا المخطّط تقودها مصر والسعودية، ولكن يجب تحويل ذلك إلى تعاون استراتيجي عربي لمواجهة المخطّطات التي تُحاك للمنطقة والتي تثبت التصريحات الإسرائيلية والأميركية أنّها لو نجحت مع شعب عربي، فإنها لن تتوقّف عنده، وأنّها ليست نابعةً من عداء للفلسطينيّين فقط، بل من عداء لكلّ العرب، بل لكلّ ما هو ليس غربي أو أبيض.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن