اقتصاد ومال

التفسير الاقتصادي لتصريحات ترامب تجاه السعودية

محمد زاوي

المشاركة

هناك من يتحدث عن تبعيّة سعوديّة مطلقة للولايات المتحدة الأميركية، ويجد أصحاب هذا الرّأي سندًا لرأيهم في طريقة حديث دونالد ترامب عن السعودية وقيادتها وما يريده منها، وكأنّ الحقائق الاقتصاديّة والسياسيّة لا تعدو أن تكون نتيجةً لصيغِ ترامب "الأَمْرِيّة". ونحن نسائِل أصحاب هذا الرّأي: لماذا لم يتحدّثوا عن موضوع التبعية من عدمها عندما رفض محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، طلب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن برفع وتيرة الإنتاج اليوْمي للنّفط السعودي؟! لماذا يكثر هذا الحديث عن تبعيّة السعودية لأميركا كُلّما تحدث ترامب عن أموالٍ يجب أن تدفعها المملكة لدولته حتى تحظى بدعم البيت الأبيض؟! هناك حقائق مغيَّبة في هذا الملف وهي التي يجب الكشف عنها.

التفسير الاقتصادي لتصريحات ترامب تجاه السعودية

عام 2017، زار دونالد ترامب المملكة العربية السعودية في زيارة كانت هي الأولى من نوعها إلى الشّرق الأوسط. وفي قمة أميركية - سعودية على هامش المناسبة ذاتها، وقّع الجانبان رؤية مشتركة واتفاقيات بقيمة 460 مليار دولار، كما منحت السعودية 23 ترخيصًا بالاستثمار على أراضيها لشركات أميركيّة كبرى، حسبما صرّح به وزير الخارجية السعودي آنذاك. هي مصالح كبرى من ضمن أخرى، ولا شكّ أنّها مصالح متبادَلة بين الطرفيْن، إلّا أنّ ترامب بحث لها عن "إخراج كوميدي" حينها كما هو معلوم.

لم يُغيّر ترامب من أسلوبه تجاه السعودية، وأبى إلّا أن يخاطب قيادتَها في الأيام الأولى من ولايته الثانية بلغة تجارية كما هي عادته. "الدَّفع مقابل الزيارة"، هكذا تحدث ترامب. فقال خلال مشاركته في منتدى "دافوس" العالمي: "سأطلب من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان رفع مبلغ الاستثمار في أميركا إلى تريليون دولار". فجاءه الرد سريعًا عبر اتصال هاتفي من قبل الأمير ابن سلمان الذي وعده باستثمار 600 مليار دولار إضافية في الولايات المتحدة الأميركية.

لا تدفع السعودية أموالًا لترامب إلّا عندما تتيقّن بأنّ سهمًا اقتصاديًا قد غُرِسَ في صدر نقيضها في الداخل الأميركي

لم تكن السعودية لتغضب من طلب ترامب هذا، لأنّها تعرف مقاصده داخل أميركا وخارجها. الأمر الوحيد الذي أغضب السعودية هو إفصاح ترامب عن رغبته في تهجير سكان قطاع غزّة إلى مِصر والأردن وغيرها من الدول. لقد كان هذا التصريح أشبه بحجر يُلقي به ترامب في بركة مائية ملأتْها السعودية بآمالها في شرق أوسط هذه عناوينه: "الاعتراف بسيادة الدولة فلسطينية، تراجع المشروع الإيراني، التطبيع مع إسرائيل". وإذا كانت السعودية قد أيْقنت فعلًا بتراجع المشروع الإيراني، فإنّ ترامب أربكَ رؤيتَها في فلسطين!

سنناقش موضوع "تهجير الغزّاويين ومواقف الدول العربية" في مقال آخر؛ بينما غرضنا من هذا المقال تفسير السّخاء السعودي تجاه ترامب، على الرّغم من الطريقة التي يتحدث بها هذا الأخير عن أكبر وأقوى دولة في الخليج العربي.

من أجل ذلك سنحاول الإجابة على هذه الأسئلة: ما الذي يستفيده ترامب من أموال السعودية؟ وماذا تستفيد السعودية من استثماراتها في الولايات المتحدة الأميركية؟ ولماذا يتحدث ترامب عن هذه الاستثمارات كخسائر تتكبّدها السعودية من ميزانيتها؟ وهل يوجد تناقض بين السعودية والولايات المتحدة الأميركية؟ وأين يكمن هذا التناقض في حال وجوده؟ وكيف يضغط ترامب على السعودية في ظلّ تحالفه مع حكامها؟ وما هي بدائل السعودية للضغط على حليفها دونالد ترامب؟ أسئلة وغيرها يُفكّر فيها ترامب اقتصاديًّا، وفي ضوء تحدّياته وعلاقاتها مع نقيضه الداخلي (المجمّع الصناعي العسكري) ونقيضه العالمي (الصين).

السعودية دولة ذات سيادة اقتصادية، في الحدود التي يسمح بها "التقسيم الدولي للعمل" كما هو شأن باقي دول العالم. ولذلك فإنّها لا توزع أموالها على دول العالم بغير معنى ومن أجل حمايتها فقط. فالحماية التي يوفّرها الأميركي، قد توفّرها دول كبرى أخرى ما أحوجها إلى أموال السعودية وموقعها في الشرق الأوسط. لا تدفع السعودية أموالًا لترامب إلّا عندما تكون على يقين بأنّ سهمًا من السهام الاقتصادية قد غُرِسَ في صدر نقيضها في الداخل الأميركي، أي المجمّع الصناعي العسكري. فترامب لا يخوض ضدّ هذا المجمّع معركة سياسية واستخباراتية وأمنية فحسب، وإنّما معركة أخرى اقتصادية وهي الأهمّ، لأنّها تُجفّف منابعه الاستثمارية من جهة، وتمنع "حركته الاقتصادية السّوداء" من جهة ثانية. وما دامت مصلحة ترامب والسعودية واحدة في تجفيف المنابع الاستثمارية للمجمّع المذكور، فإنّ السعودية تُصبح مطالبةً بتمويل مشاريع الاستثمار المدني في الولايات المتحدة الأميركية. إنّ إغلاق مشاريع الاستثمار العسكري قرار مُكلِف ماليًّا واقتصاديًّا، وهذا ما تعرفه السعودية جيّدًا على الأرجح!

اتفاق أميركا والسعودية على استراتيجيّة السلام في الشرق الأوسط لا ينفي اختلافهما في الطريق المؤدّي إليها

وإنّ الأمرَ، في الشّرط الجديد، لم يعُدْ مجرّد هبة مالية تُقدّمها السّعودية لدونالد ترامب وإدارته؛ بل هي استثمارات سعودية مضاعفة داخل الولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي يجعل الربح الواحد ربحَيْن: تقوية الاستثمار المدني داخل أميركا، وتوسّع استثمار الرّأسمال السعودي في الخارج (في أميركا). إنّه ربحٌ سعوديٌ لا غبار عليه، فلِمَ يُقدّمه ترامب كخسارة مفروضة على الإدارة السعودية ورأسمالها؟ يجب أن نسأل المستشارين الإعلاميّين لترامب، فهم وحدهم يعرفون الجواب الحقيقي!

التمويه لغة يجيدُها ترامب أو مستشاروه في الإعلام، وعِوَض التركيز على الجوهر الاقتصادي والسياسي للاستثمارات السعودية في أميركا، يتمّ تقديم تلك الاستثمارات للرّأي العام الأميركي والدولي كخسارة تؤدّيها السعودية، وعِوَض الحديث عن الدور السعودي في مواجهة نقيض ترامب داخل أميركا يتمّ الحديث عن تبعيّة سعودية مطلقة لإدارة ترامب! وهذه أمورٌ لا تضرّ السعودية، لأنّها تعرف حقيقتها.

على الرَّغم من ذلك، لا تخلو العلاقة بين أميركا ترامب والمملكة العربية السعودية من تناقض. إنّ اتفاق البلدين على استراتيجيّة السلام في الشرق الأوسط لا ينفي اختلافهما في الطريق المؤدّي إليها، وذلك لأنّ ترامب لا يراعي الموقف السّعودي فحسب، وإنّما يراعي الداخل "الإسرائيلي" أيضًا وما يمكن أن ينتجه من عراقيل لمخطّطه في الشّرق الأوسط إذا هو أظهر ميْلًا واضحًا للموقف العربي. التصريحات الأخيرة بتهجير سكان غزّة تدخل في هذا الإطار. إنّها بمثابة لجمٍ لمطلب السّعودية بإقامة "دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشّرقية"، وإنّ ترامب يريد "تطبيعًا سعوديًّا" بأقلّ تكلفة تُرضيه وتُرضي الدّاخل "الإسرائيلي".

علاقة السعودية بالصين أكثر إيلامًا لطموحات ترامب الاقتصادية

هذا الموقف الأميركي هو ما يدفع الدولة السّعودية إلى تعديد شركائها، بل يدفعها إلى تحسين وتطوير علاقاتها مع خصوم الولايات المتحدة الأميركية، بخاصّة روسيا والصين. ويدخل استئناف السعودية لعلاقاتها مع إيران في الإطار ذاته أيضًا، أي في إطار الضغط على الولايات المتحدة الأميركية بخصومها. أمّا عندما نتحدّث عن الصين، فإنّ علاقة السعودية بها تكون أكثر إيلامًا لطموحات ترامب الاقتصادية، وهو كذلك إذا علمنا أنّ الصّين هي الشريك التجاري الأول للمملكة العربية السعودية. ناهيك عن الآفاق الاقتصادية الواعدة بين الصين والسعودية، وبينها وبين دول الخليج العربي عمومًا. صحيح أنّ ترامب مهتم بالصّين أكثر من اهتمامه بأي بلد آخر، إلّا أنّه لا يريد امتدادًا اقتصاديًّا صينيًّا في الشّرق الأوسط أو في كندا أو في الاتحاد الأفريقي... إلخ، على حساب المصالح الأميركية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن