فوز بوتين وتراجع لهجة ترامب

حقق الرئيس الروسي بوتين عدة نقاط خلال مكالمته الطويلة مع الرئيس الأمريكي ترامب، النقطة الأولى تتعلق برفض الولايات المتحدة انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو تماما، والثانية بإعلان الرئيس الأمريكي أن أراضي أوكرانية ستصبح روسية، أما النقطة الثالثة فإن المباحثات التي توجتها المكالمة بين الرئيسين الأمريكي والروسي حول مستقبل أوكرانيا لم يشارك فيها لا الرئيس الأوكراني زيلينسكي ولا الاتحاد الأوروبي.

وهو ما أثار غضبا أوروبيا عبر عنه المستشار الألماني شولتس تجاه "تغيير الولايات المتحدة سياساتها تجاه الحرب الأوكرانية"، وقال إن انتصار روسيا وهزيمة أوكرانيا تضر بالأمن الأوروبي، داعيا إلى تحرك عاجل لاعتماد أوروبا على قدراتها الذاتية، وليس على الولايات المتحدة، وتحدث عن أهمية تطوير المجمع الصناعي العسكري الأوروبي، وأن تتحمل أوروبا نفقات الدفاع عن نفسها بقدراتها الذاتية، بعيدا عن الاعتماد على الولايات المتحدة، وانتقد الإدارة الأمريكية لأنها لم تشرك أوكرانيا في المباحثات المتعلقة بمستقبلها، ودعا إلى عدم تهميشها.

والحقيقة أن ما أعلنه الرئيس ترامب لم يتجاوز زيلينسكي وحده، بل تجاوز قادة أوروبا، التي لم يعلم قادتها ما دار خلالها إلا في وسائل الإعلام، وهو ما اعتبروه مسيئا إلى أوروبا، وتقليلا من شأنها، ويزيد من الشعور الأوروبي والأوكراني بالتهميش أن اللقاء المرتقب بين الرئيسين الروسي والأمريكي المقرر في السعودية لن يشارك فيه زيلينسكي أو أي طرف أوروبي، ليبدو الأمر رهنا بإرادة كل من الولايات المتحدة وروسيا، لكن القادة الأوروبيين تجنبوا أي نقد مباشر لوقف الحرب في ظل سيطرة روسيا على نحو 20% من الأراضى الأوكرانية، وركزوا على المخاوف الأوروبية المترتبة على فوز روسيا، وبالغوا في أنها ستكون ضوءا أخضر لأن تسعى روسيا إلى تحقيق المزيد من المكاسب، وأنها يمكن أن تشن جولة جديدة من الحرب على ما تبقى من أوكرانيا ودول أوروبية أخرى.

المؤكد أن أوكرانيا ستشارك في المفاوضات، لكن بعد أن يضع الرئيسان الخطوط العريضة لاتفاق سلام شامل، وأوروبا ستكون بين خيارين، إما المشاركة الهامشية، أو تبقى منعزلة، ولا تقوى على استكمال الحرب وحدها، وإذا أصرت فستكون الخسائر أفدح، وانتصار روسيا أكبر، بما يفاقم من أزمات أوروبا الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وستدفع أوروبا الثمن الأكبر، سواء حاولت استكمال الحرب، وهو أمر شبه مستبعد، وكذلك في حالة إذعان أوكرانيا لخطة السلام الروسية-الأمريكية.

لم تتحدد ملامح المفاوضات، لكن الرئيس الروسي حقق أهم مطلبين قبل أن تنطلق المفاوضات، ما يجعل فوزه قد تحقق مبكرا، مستندا إلى سيطرته على مساحة كبيرة من الأرض قابلة للتوسع في حال استمرارها، وكذلك التغير الأمريكىيتجاه الحرب وتمويلها بعد تولي ترامب الحكم، ما يضع أوكرانيا وأوروبا في موقف صعب، ليس أمامهما سوى تقديم التنازلات.

لهجة ترامب السلمية تجاه الحرب الأوكرانية امتدت ولو قليلا تجاه الوضع المتأزم في غزة، وتوقف عن الحديث حول التهجير، ويبدو أن مستشاريه قد نصحوه بعدم المضي في مشروع التهجير، وأنه ليس مقبولا من جميع الأطراف العربية، خاصة مصر والسعودية والأردن، وأنه يمكن أن يخسر مصالحه في تلك المنطقة الحيوية، أو يتورط في مستنقع حرب قد تدور في المنطقة، وأن أمريكا ستكون معزولة دوليا، وستخسر الكثير، وأن كلامه عن صغر مساحة إسرائيل يشجعها على خطوات متهورة نحو التوسع، الذي لن يكون نزهة، بل زر تفجير واسع ومدمر في المنطقة، وقابل للتمدّد، وسيخسر فيه الجميع، فهل أدرك ترامب أن سقوفه العالية جدا قد أضرته، وأنه بحاجه إلى مسار أكثر عقلانية حتى يتجنب الخسارة والعزلة؟

إن لهجة الرئيس ترامب سببت له الكثير من المتاعب، ولم تعد مقبولة، وواجهت الكثير من الانتقادات، ولم تحقق هدفها في الردع والتخويف، وعليه أن يدرك أن وهم القوة ليس بمقدوره تحقيق مكاسب، وأن عليه أن يدرك حجم المتغيرات الجديدة والسريعة في موازين القوى العالمية، وأن الأزمات الأمريكية العميقة بحاجة إلى علاج من داخلها، وأن افتعال الأزمات والحروب لن يكون مخرجا من تلك الأزمات، بل سيسرع وتيرة التراجع الأمريكي، وأن سلاح العقوبات يتآكل، فالقوة الاقتصادية والعسكرية تراجعت، بينما تصعد دول أخرى على رأسها الصين وروسيا وقوى إقليمية لها أوزانها المؤثرة، ولم يعد بالإمكان تجاهلها، لأن عصر القطب الواحد قد انتهى عمليا.

(الأهرام المصرية)

يتم التصفح الآن