مؤلّفات سيّد قطب هي الأشهر، وأشهرها على الإطلاق "في ظلال القرآن"، حصرنا هذا المقال في المقابلة ـ ولا أقول المقارنة ـ بين "أشواك قطب" و"شوك السّنوار وقرنفله".
كتب السّنوار "قرنفلته" في زنازين سجن عسقلان الإسرائيلي، بينما كتب قطب "أشواكه" وهو حرّ طليق قبل أن تعرف قدماه طريقهما إلى السجون، ولكنّ الريفي الذي ظل مطبوعًا في سريرته بدا محبوسًا داخل أقفاص شكوكه، وزنازين أشواكه، وقصور نظرته إلى العلاقة مع فتاة مدينيّة من القاهرة.
درس السنوار إسرائيل من الداخل فكانت هذه واحدة من أهم خدماته التي قدّمها للقضية الفلسطينية
سنوات السّجن طبعت طابعها على مؤلّفات سيّد قطب، أنهى خلالها "الظلال"، وأعاد كتابة بعض أجزائه، سبقتها مؤلفاته النقدية والفكرية المعتدلة على رأسها كتابه الشهير "العدالة الاجتماعية في الإسلام" الذي يتبرَّأ منه بعض أنصاره.
لم يكن السّنوار مثل قطب غزير الإنتاج الفكري والإبداعي، وكلّ مؤلفاته ومترجماته كانت في فترة سجنه الطويلة التي ناهزت ربع قرن، أتقن خلالها "العبرية"، ودرس إسرائيل من الداخل، فكانت هذه واحدة من أهم خدماته التي قدّمها للقضية الفلسطينية.
ترجم "السّنوار" كتابيْن يتناولان أسرار جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، الأوّل بعنوان "الشاباك بين الانقسامات" لمؤلّفه رئيس الشاباك "كرمي غيلون"، أما الآخر فكان كتاب "القادم لقتلك... استبِق واقتله" لمؤلفه يعقوب بيري، الذي كان رئيسًا لجهاز الشاباك من العام الذي اعتقل فيه السّنوار للمرة الثالثة حتّى عام 1995.
من ترجماته عن الداخل الإسرائيلي كتاب "الأحزاب الإسرائيلية" الذي يُقدّم تعريفًا بأحزاب الكِيان وبرامجها وتوجهاتها، ويكشف دور الأحزاب السياسية في تشكيل القرارات وصناعتها في إسرائيل.
"أشواك" قطب هي قصّته الشخصية بينما ثنائية السّنوار مزْجٌ بين قصّته الشخصية وقصص تخصّ هذا الفلسطيني أو ذاك
كرَّس السّنوار مؤلفاته لخدمة النضال الوطني الفلسطيني ولعلّ أبرزها في هذا المجال كتاب "المجد"، درس فيه طريقة عمل الأجهزة الأمنية في جمْع المعلومات، وطرق شراء ولاءات الناس الذين يتم تجنيدهم عملاء، والكيفية التي تُنتَزع بها المعلومات من الأسرى بأساليب نفسيّة أو جسديّة وبطرق وحشيّة فضلًا عن خُبثها وخِسّتها.
يُحسب لـ"السّنوار" أنّه كان صاحب رؤية نقدية لتجربة حركة "حماس" ومسارها ومسيرتها، ما دفعه إلى تأليف كتابه "حماس: التجربة والخطأ" يستشرف فيه مستقبل الحركة في صراعها مع إسرائيل، وربما كانت هذه الدراسة هي الأساس الذي استطاع من خلاله بعد تولّيه رئاسة "حماس" في غزّة عام 2017 أن يعيد ترتيب وتنظيم الحركة من الداخل، وتشكيل صورة ومضمون العلاقة بين الجناح العسكري والمكتب السياسي.
استخدم قطب صيغة جمع التكسير "أشواك" على وزن "أفعال" الذي يُفيد القلّة، ولم يُعرّفها بألف ولام التعريف فجاءت منكرة تفيد التهويل، هي أشواك على الرَّغم من قلّتها، فأهوالها على النفس كبيرة، "خاضت معي في الأشواك، فدَميتْ ودميتُ، وشَقيتْ، وشقيتُ".
أما "شوك" السّنوار فهو اسم مفرد مُعرَّف، أضاف إليه القرنفل، كأنّهما بديلان يتبادَلان الأيام، وكأنه في حالة توازن نفسي، يشقى بشوكه، ويسعد بقرنفله، والشوك عنده معلوم، وفد فصَّله تفصيلًا تناول فيه سرديّة القضية الفلسطينية طوال 25 سنة من نكسة 67 إلى الانتفاضة الفلسطينية.
"أشواك" قطب هي قصّته الشخصية ومعاناته الذّاتية، بينما ثنائية السّنوار بين "الشوك والقرنفل" هي مزْج بين قصّته الشخصية وقصص تخصّ هذا الفلسطيني أو ذاك، "جميع أحداثها حقيقية عاشها بنفسه وكثيرٌ منها سمعه من أفواه من عاشوه، هم وأهلهم وجيرانهم، على مدار سنوات طويلة على أرض فلسطين الحبيبة".
رواية السّنوار هي مسْح سياسي واجتماعي ترسم ملامح حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال
"أشواك" رواية حُمِّلت أوزار الخلاف حول صاحبها، حتّى بين أنصاره ومحبّيه هناك من يريدون شطبها من تاريخه، بعضهم يرى أنّها من كتاباته "الجاهلية" ولم يكن نور الإسلام قد دخل قلبه (!)، أمّا خصومه فكانوا أرحم به وبها من محبيه، إذْ اعتبروها زفرة حب بائس لم ترقَ إلى أن تكون رواية بمقاييس القصّ وجمالياته المتعارف عليها، وإنْ لم تخلُ من صياغة رشيقة مرهفة غاصت في النّفس البشرية التي تعاني مثل هذه التجربة الشعورية القاسية.
عبَّرت "أشواك" قطب عن هموم النّفس المعذّبة في حبها المغدور، وحملت "الشوك والقرنفل" ثنائية السّنوار التي تحمّل همًّا كبيرًا ومعاناة شعب، همَّ القضية الفلسطينية، لم تكن معاناته في علاقة شخصية، بل تركّزت ضمن "طوفان المعاناة" التي يعيشها الفلسطيني منذ النكبة مرورًا بالنّكسة وحتى اليوم.
ترسم رواية قطب ملامح شخص معذّب بحبه، مشبوب بمحبوبته، اختلط فيها العشق بشكوك تتزايد، وكثيرٌ منها مُتوَهَّم، حُلوُها أقلّ من مُرِّها، غرزت شوكةً حادةً في وجدانه، حتى لمّا قرّر الفراق عنها بقيت تلك الأشواك غائرة في نفسه مخلِّفة جرحًا بدا أنه لم يندمل، وربما ترك أثره في أعماق تلك النفس وقاده إلى بعض التحوّلات الفكرية فيما بعدها.
ترك كل من سيّد قطب ويحيى السّنوار بصمته محفورة على وجه التاريخ
كما ترسم رواية السّنوار ملامح حياة الفلسطينيين في مجموعهم تحت الاحتلال، هي مسْح سياسي واجتماعي فيه أفراح وأتراح وطقوس، وبيوت تأثيثها أقلّ من بسيط، ومدارس أقلّ من الحاجة، وفيه معاملات مع كيانات دولية ومنظمات إغاثية، وفيه مشاعر تتقلّب بين الخوف والألم والأمل، وهواجس الأمّهات ودموعهن لحظة اعتقال الأبناء، أو في أعقاب خبر استشهادهم.
في "الشوك والقرنفل" الحبّ ليس فيه كل هذا الالْتياع الذي ساد في "أشواك"، السؤال المطروح هو "هل من حقنا أن نحبّ؟"، يقول أحدهم: "يبدو أنّ قدرنا هو أن نعيش حبًّا واحدًا فقط، حب هذه الأرض ومقدّساتها وترابها وهوائها وبرتقالها"، ويختم: "قصتنا قصة فلسطينية مريرة، لا مكان فيها لأكثر من حب واحد وعشق واحد".
سيّد قطب ويحيى السّنوار، ترك كلٌ منهما بصمته محفورةً على وجه التاريخ، الأوّل من أكثر المفكرين الإسلاميين تأثيرًا في القرن العشرين، أثَّرت أفكاره في الحركات الإسلامية المعاصِرة، والثّاني من أهم وأصدق وجوه النضال الفلسطيني المعاصِر، سيبقى أثرُه في ما تبقّى من القرن الحادي والعشرين.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")