في الخامس من فبراير/شباط الجاري، حُكِمَ على الصحافية شذى الحاج مبارك بالسّجن لمدة خمس سنوات فيما يُعرف إعلاميًّا بقضية ''أنستالينغو''، بعد أن كان محاميها ينتظر تبرئتها في ظلّ نفي ملف القضية جميع التّهم عنها. وهي عقوبة لم تشهد تونس مثلها منذ الاستقلال باستثناء عقوبة مماثلة طالت صحافيًّا مع السّلطة الحالية أيضًا وأُسقطت لاحقًا.
تعود أطوار القضية إلى تموز/يوليو 2021، عندما تمّت مداهمة مقرّ شركة الإنتاج واستدعاء الصحافيّة شذى الحاج مبارك للتّحقيق، وتقرّر إيقافها حينها ثم إطلاق سراحها. وفي سنة 2023، أسقط قاضي التحقيق في محكمة محافظة سوسة التّهم عنها مؤكدًا أنها تقوم بأعمال صحافية لا علاقة لها بالتّهم الموجّهة لها وقرر إيقاف التتبّع وبطاقة الإيداع في حقّها. ولكنّ دائرة الاتهام بتونس نقضت الحكم في يوليو/تموز من السنة نفسها وتقرّر إيداع الصحافية السجن وتوجيه تهم التآمر على أمن الدولة الخارجي على معنى الفصل 61 مكرّر من المجلة الجزائيّة لها، فضلًا عن تهمة إتيان "أمر موحش" ضد رئيس الجمهورية على معنى الفصل 67 من المجلة الجزائية.
وفي 25 يناير/كانون الثاني الماضي، قررت محكمة الاستئناف في تونس الجمعة تخفيف حكم صادر في حقّ المحامية والإعلاميّة المعروفة بانتقادها الحادّ للرّئيس قيس سعيد، سنية الدهماني، إلى السجن سنة وستة أشهر بعد أن كان سنتين في الطور الابتدائي على خلفية منشورات إعلامية حول العنصرية في البلاد. وهو الحكم السّجني الثاني في حقّ الدهماني المحكومة أيضًا بثمانية أشهر سجن بسبب استهزائها بتصريحات حول نيّة المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء أن يقيموا دومًا في تونس على الرَّغم من الأزمة الاقتصادية الحادّة في البلد. علمًا أنه في رصيد سنية الدهماني خمس قضايا، جميعها على معنى الفصل 24 من المرسوم 54.
ويقبع الصحافي محمد بوغلاب في السّجن منذ الـ22 من مارس/آذار الماضي بعد أن صدر حكم بسجنه لمدة ثمانية أشهر بتهمة "التشهير بموظفة رسمية"، بعدما تحدّث في برنامج إعلامي عن سفريات متعدّدة لموظفة في وزارة الشؤون الدينية في الحكومة التونسية من دون مبرّرات معقولة، مُلَمِّحًا إلى إمكانية حصول فساد مالي وإداري. وعلى الرَّغم من نهاية المدة السجنية إلا أنّ بوغلاب ما زال يقبع في السجن رغم تدهور وضعه الصحي بشكل كبير في ظلّ عدم توفّر العلاج اللّازم داخل السجن.
في 11 مايو/أيار الماضي، تم إيقاف الصحافيَيْن مراد الزغيدي وبرهان بسيس، وفي 15 مايو/أيار تمّ إصدار بطاقتي إيداع بالسّجن في حقهما، وبعد مرور سبعة أيام تمّ الحكم عليها بالسجن لمدة سنة مع النفاذ على خلفية تعليقات إذاعية وتلفزيونية وتدوينات على منصات التواصل استنادًا إلى الفصل 24 من المرسوم عدد 54، ثم خفّفت محكمة الاستئناف مدة العقوبة البدنيّة إلى 8 أشهر. وقبل نهاية المدة السّجنية بأيام وفي عملية استباقية وحتى لا يتمكن الزغيدي وبسيس من مغادرة السجن، أصدر قاضي التحقيق في المحكمة الابتدائية في العاصمة تونس بطاقتَي إيداع بالسجن جديدتيْن في حقّ الصحافييْن من أجل شبهة "تبييض أموال" وهي تهمة يصفها محاميهما وأهاليهما بالكيديّة لإسكاتهما.
في العاشر من يناير/كانون الثاني الماضي، مثل أمام أنظار القضاء التونسي ثلاثة صحافيين وإعلاميين تونسيين في قضايا مختلفة مرفوعة ضدّهم، في حادثة اعتُبرت سابقة في تاريخ الصحافة التونسية. حيث مثلت الصحافية شذى الحاج مبارك أمام الدائرة الجنائية الثانية في المحكمة الابتدائية بتونس. كما نظرت الدائرة الخامسة بالمحكمة نفسها في قضية الإعلامي والنّاشط المدني غسان بن خليفة على خلفيّة محتويات منشورة على شبكة التواصل الاجتماعي لا علاقة له بها. فيما نظرت محكمة الاستئناف بتونس في طلب الاستئناف الذي قدّمه الدفاع عن الإعلامية سنية الدهماني على خلفية تصريحاتها الإعلامية وإحالتها على معنى الفصل 24 من المرسوم 54 الخاص بمكافحة جرائم أنظمة المعلومات والاتصال.
وكان الرّئيس التونسي قيس سعيد، قد أصدر في أيلول/ سبتمبر 2022، مرسومًا عُرف بـ"المرسوم 54"، ينصّ في الفصل 24 على "العقاب بالسجن لمدة خمسة أعوام وغرامة تصل إلى خمسين ألف دينار، لكلّ من يتعمد استعمال شبكات وأنظمة معلومات واتصال لإنتاج، أو ترويج، أو نشر، أو إرسال، أو إعداد أخبار، أو بيانات، أو إشاعات كاذبة، أو وثائق مصطنعة، أو مزوّرة، أو منسوبة كذبًا للغير، بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الإضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني". وقد تمّ تقديم هذا المرسوم على أنه إطار قانوني لمكافحة الجرائم السيبرانيّة، ولكنه استُعمل لملاحقة الصحافيين والمواطنين، الذين ينتقدون سياسات السلطة وخياراتها.
ويُنظّم المرسوم عدد 115 لسنة 2011 الجرائم التي تُرتكب في إطار العمل الصحافي بشكل عام، فيما يُنظّم المرسوم عدد 116 الصادر بالتاريخ نفسه الجرائم التي تُرتكب في وسائل الإعلام السمعيّة والبصريّة، ولكنَّ السلطة تصرّ على إخضاعها لقوانين ومراسيم وُضعت أساسًا بهدف التضييق على حرّية التعبير ومحاصرة عمل الصحافيين وأبرزها المرسوم 54 الذي يلاحق أغلب الصحافيين على معناه. إذ وصلت عدد الإحالات على معنى هذا المرسوم في حق الصحفيين/ـات والإعلاميين/ـات في تونس إلى 24 إحالة، منها 21 تتبّعًا أثارته جهات رسمية، 7 من طرف النيابة العمومية، إضافة إلى 5 عقوبات سالبة للحرّية، حسب نقابة الصحافيين التونسيين.
نقيب الصحافيين التونسيين زياد دبّار، يقول لـ"عروبة 22": "منذ 25 يوليو/تموز 2021، شهدنا تراجعًا خطيرًا في مستوى حرّية التعبير والصحافة. وأصبح الصحافيون يتعرّضون لضغوطات كبيرة، منها الملاحقات القضائية المتواترة بموجب المرسوم 54 الذي يُعتبر قانونًا قمعيًّا للحريات. رئيس الدولة أكد مرارًا أن حرية التعبير مضمونة بالدستور، لكنه في الوقت نفسه قام بإصدار المرسوم 54 سيّء الذكر الذي بات يُستخدم بشكل تعسّفي ضد الصحافيين والمدوّنين، وأصبح بمثابة قانون جديد للصحافة. على الرّغم من أنّ المرسوم 115 هو الإطار التشريعي الوحيد الذي يحترم حقوق الصحافيين ويُنظّم المهنة بطريقة عادلة، لكن يتم تجاهله بالكامل من قبل السلطة الحالية لصالح قوانين قمعيّة".
(خاص "عروبة 22")