فيما كتبته الصحافية الإسرائيلية تداخلت المشاعر والأحكام على نحوٍ مربك، فالرّوح الشريرة التي تحرّض على إسرائيل هو نفسه "رئيس تحرير أسطوري".
في الكلام مغالطات تاريخية وأخلاقية حاولت أن تُضفي صفة "الشرّ" على كلّ مَن يناهض المشروع الصهيوني، أو يناصر "الضحية الفلسطينية"، التي تُنزع من أرضها وتُهدم بيوتها وتُضفي – بالمقابل - صفة "الخير" على مَن يصافحون الأيدي الملوّثة بدماء الضحايا.
بأيّ مراجعة جدّية في أسُس نظرية الأمن القومي في مصر فإنّها تعود بالمقام الأوّل إلى "هيكل" و"جمال حمدان". كلاهما مؤيد لثورة "يوليو/تموز" وتوجّهاتها الاستراتيجية. وكلاهما كان شاغله الرئيسي "الجغرافيا والتاريخ". أحدهما، قضيته التاريخ ووثائقه في رواية الصّراع على مصر والمنطقة يطلّ على وقائعه من فوق تضاريس الجغرافيا وثوابتها. والآخر، قضيته الجغرافيا وعبقرية المكان فيها يقرأ ثوابتها من نافذة التاريخ وتحوّلاته.
بتلخيصٍ لجوهر رؤية "حمدان" فإنّ مصر محكومة بجغرافيتها، إذا انفتحت على محيطها العربي تقوى وتتقدّم... وإذا انكفأت على نفسها تضعف وتتقهقر.
لم تكن مصادفة أن يتضمّن التوجيه الاستراتيجي لحرب أكتوبر الذي كتبه بنفسه "كسْر نظرية الأمن الإسرائيلي"
بتلخيصٍ آخر لرؤية "هيكل" للأمن القومي فهناك محوران رئيسيان. أوّلهما جنوبي هدفه ضمان سلامة نهر النيل وهو عصب الحياة في مصر. وثانيهما شمالي شرقي وبالتّخصيص فلسطين، لأنّها الجسر البرّي الذي يصل أفريقيا بآسيا في شبه برزخ بين بحرَيْن، فهذا الجسر البرّي كان طريق مصر باستمرار إلى المشرق حيث تعيش بقية أمّتها العربية، وكان على مرّ العصور - مدخلها ومخرجها - أي بابها الحضاري والأمني والاقتصادي.
وقد استعادت دراسة إسرائيلية عن ظاهرة "هيكل" ودوره في الصراع العربي - الإسرائيلي ما توقّعه قبل حرب 1967 مباشرةً مِن أنّ "إسرائيل لا بدّ لها أن تلجأ للسلاح".
"إنها فلسفة الأمن القومي الإسرائيلي كلّه... الفلسفة التي ارتكز عليها الوجود الإسرائيلي كلّه منذ نشأ، ويرتكز عليها في المستقبل".
لم تكن مصادفة أن يكون هو من صاغ "فلسفة الثورة" مطلع ثورة 1952، التي حدَّدت دوائر الحركة التي تحكُم السياسة الخارجية، ولا كانت مصادفة أخرى أن يتضمّن التوجيه الاستراتيجي لحرب أكتوبر/تشرين الأول، الذي كتبه بنفسه، "كسْر نظرية الأمن الإسرائيلي" كهدفٍ رئيسيّ للعمليات العسكرية التي كانت على وشك أن تبدأ.
وِفق الدراسة الإسرائيلية نفسها، فهو "من بَلْوَرَ الرؤية العربية تجاه إسرائيل وصاغ الخطاب العربي، الذي امتد أثره حتى الآن وأكسبه عُمقًا ثقافيًّا ومعرفيًّا".
الدراسة كتبها البروفيسور "يو حاي بر سيلاع" المتخصِّص في الشؤون العربية والأفريقية، نشرتها دوريّة "أمجو" البحثيّة، التي ظهرت في أغسطس/آب 2003 بعد احتلال العراق. وتولّى ترجمتها الدكتور "محمد عبود" أستاذ العبرية في جامعة عين شمس على صفحات جريدة "العربي".
تبنّت الدراسة سؤالًا افتراضيًّا: "ماذا لو هُزمت إسرائيل؟".
أخذَت سؤالها من كتاب أميركي نشأت فكرته حين التقى في نيويورك ثلاثة صحافيين من مجلة "نيوزويك" على غداء عمل هم: "ريتشارد تشيزنوف"، و"إدوارد كلاين"، و"روبرت ليتل"، الذين غطّوا أحداث الحرب من الجانب الإسرائيلي.
على الرَّغم من الطابع التخيّلي لما جاء في الكتاب، الذي صدر في فبراير/شباط 1969، إلّا أنّه اعتمد بالأساس على أحداث واقعيّة.
وقد كان هدفه المباشر التأثير في صانع القرار الأميركي طلبًا للمزيد من الدعم لإسرائيل، على الرَّغم من كل ما حازته من سلاح ومال وما حصدته من نتائج عسكرية فاقت كل توقّع في حرب 1967.
إسرائيل دائما مهدّدة، وأميركا دائمًا مقصّرة، والعرب ينتظرون الفرصة للانتقام. انْطوت تلك الرؤية على نزعتيْن متناقضتيْن ـ إسرائيل مهدّدة وهزيمتها غير ممكنة.
الفرضيّة نفسها ماثلة الآن على الرَّغم ممّا لحق بإسرائيل من انكشاف عسكري واستخباراتي فادحَيْن في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
نزعت الدراسة عن العرب أي فرصة لأي نصر، لا في الماضي ولا في المستقبل، على عكس ما روَّج له "هيكل" من أنّ النصر ممكن.
لا يخفي الباحث الأكاديمي الإسرائيلي إعجابه البالغ بقدراته الاستثنائية، فهو "صانع سياسات من طراز خاصّ" و"رئيس تحرير أسطوري"... وقد "كانت الأهرام تحت قيادته أهمّ جريدة في العالم العربي والوحيدة التي يتابعها العالم كلّه باهتمام بالغ".
كما أنّه "قصة نجاح ماثلة في الأذهان"، و"علاقته مع جمال عبد الناصر تجاوزت بكثير مجرّد صداقة وطيدة بين صحافي وزعيم سياسي"، "ومهارته المهنية الهائلة في فنّ الكتابة الصحافية أكسبته قوة استثنائية لدى الجمهور العربي، فكلّ ما يكتبه، كأنّما قاله عبد الناصر بنفسه".
حسب الدّراسة فإنّه بعد شهور قليلة من الهزيمة كتب مقالًا (أكتوبر/تشرين الأول 1967) قال فيه:
"العدو الإسرائيلي، على الرَّغم من قدرته على استغلال ما يتاح له من إمكانات، فإنّه لا يلقي الرّعب في النّفوس وقدراته لا تخرج عن الإطار العادي. وإلحاق الهزيمة الكاملة به أمر ممكن".
أهم ما يتبقّى من إرثه عمق نظرته إلى الأمن القومي
بمزيج من الإعجاب البالغ والنّقد اللّاذع، تعقّب الأكاديمي الإسرائيلي "يو حاي بر سيلاع" سيرة حياته وقصته مع القضية الفلسطينية.
"هو الرجل الذي دعا الجمهور العربي عام 1964 إلى اعتبار القضية الفلسطينية قضية مصيرية وفق النقاط التالية:
أ - إسرائيل تُمثّل قاعدة عدوانية في خدمة الإمبريالية الغربية.
ب - إسرائيل هي العقبة الكؤود في وجه الوحدة العربية.
ج - لدى إسرائيل مطامع في التوسّع والتمدّد على حساب القوى العربية والإنسان العربي".
بعد تسع سنوات من رحيل "هيكل"، فإنّ أهم ما يتبقّى من إرثه عمق نظرته إلى الأمن القومي.
(خاص "عروبة 22")