الأمن القومي العربي

الفراغ الاستراتيجي العربي... وإعادة رسم التوازنات في الإقليم!

القاهرة - أحمد أبو المعاطي

المشاركة

تُجسّد العربدة الإسرائيلية واستهدافها لأكثر من خمس عواصم عربية، حالة الفـراغ الاسـتراتيجي العربي، الذي خلّفه الغياب القسري لقـوى عربية محوريـة وفاعلة، قـادرة علـى ضبط إيقاع الأحداث، وحفـظ التـوازن الإقليمي المُختل. وهو الغياب الذي أتـاح المجـال أمام قـوى أخرى لشغل هذا الفراغ، في ظلّ غيـاب مشـروع عربـي مُوحّـد، من شأنه أن يؤدّي في حال استمرار الوضـع القائـم، إلى تكريس حالـة التشـرذم الإقليمـي، وزيادة مخاطـر التدخلات الأجنبيـة، وإطلاق يدها في إدارة العديد من الملفـات الملتهبة في الإقليم.

الفراغ الاستراتيجي العربي... وإعادة رسم التوازنات في الإقليم!

يرى الكثير من المراقبين، أنّ ما شهدته المنطقة العربية مع بداية العقدَيْن الأخيرَيْن من أحداث تجسّدت في ما عُرف بـ"ثـورات الربيع العربي"، وما أسفرت عنه من تفكيكٍ لبنيـة الدولـة فـي العـديد مـن البلـدان العربية الفاعلة، وخلق كيانـات هشّـة غيـر قـادرة علـى ممارسـة وظائفهـا السـيادية، ساهم بصورة كبيرة في تكريس حالة الفـراغ الاسـتراتيجي في المنطقة، نتيجـة تراجـع الأدوار العربيـة التقليديـة، في ظلّ التحـوّلات البنيويـة التي ضربت العديد من بلدان العالم العربي، وما انتهت إليه من تفـكّك النظـام العربـي برمّته.

وهذا الأمر لعب الدور الأبرز في تصاعد التدخّلات الإقليمية والدولية، حيث استفادت العديد من القوى الإقليمية غير العربية، مثل تركيا وإيران ودولة الكيان الصهيوني، بشكلٍ كبيرٍ من هذا الفراغ، لتعزيز نفوذها الإقليمي، مستندةً في ذلك، حسبما يرى الدكتور علي أحمد جاد، أستاذ العلوم السياسية وعميد كلية الدراسات الأفرو-أوروبية العليا، إلى تراجـع ما يُعرف بالـدور العربـي الجماعـي، الذي تكرّس بشكل كبير عقب وفـاة الزعيم الراحل جمـال عبـد الناصـر عام 1970، وما تبعه من خـروج مصـر مـن دائـرة المواجهـة العسـكرية مـع إسـرائيل، بتوقيـع معاهـدة "كامـب ديفيـد 1979"، التي لعبت هي الأخرى دورًا كبيرًا في تراجع القـوّة العربية، في ظلّ غيـاب مشـروع عربـي مشـترك، تـرك المنطقـة نهبًا للعديد من القوى الإقليمية، التي ساهمت بتدخّلاتها المباشرة في تفكيك ما تبقّى من النظام العربي الإقليمــي، الذي فقد آخر أوراقه بالغــزو العــراقي للكويــت عام 1990.

مثّلت التحوّلات الجيوسياسية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط بعد عام 2011، حسبما يرى الدكتور محمد إبراهيم فرج، أستاذ العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، مرحلةً انتقاليةً عميقةً، تجاوزت آثارها الحدود الوطنية لتُعيد رسم التوازنات الإقليمية والدولية، بعدما أدّت ثورات الربيع العربي، إلى سقوط العديد من الأنظمة الرّاسخة في مصر وتونس وليبيا، إلى جانب ما أشعلته من حروب أهلية مدمّرة في سوريا وليبيا واليمن. وهو ما ساهم في خلق بيئةٍ إقليميةٍ يسودها عدم اليقين الاستراتيجي، بعدما أسفرت حالة الفوضى التي أعقبت تلك الثورات، عن اهتزاز المحاور القائمة على أسسٍ إيديولوجية أو تاريخية، لتُفسح المجال أمام تحالفاتٍ جديدةٍ أكثر براغماتية، فضلًا عن بروز عدد من الفاعلين الجدد، سواء في صورة تنظيمات مسلّحة عابرة للحدود مثل تنظيم "داعش"، أو ميليشيات مدعومة من قوى إقليمية أخرى.

وقد نجح هؤلاء الفاعلون الجدد في فرض أجنداتهم على الخريطة الجيوسياسية، ما ساهم بشكل كبير في زيادة هشاشة "الدولة الوطنية" في العديد من بلدان العالم العربي، في وقتٍ بدأت فيه العديد من القوى الإقليمية الكبرى، في إعادة التموضع من جديد، لشغل هذا الفراغ الاستراتيجي. سواء عبر تعزيز نفوذها الإقليمي، على نحو ما فعلت إيران، عبر شبكة من الوكلاء في العراق وسوريا ولبنان واليمن، معتمدةً في ذلك على مزيج من القوة الصلبة المتمثّلة في الدعم العسكري المباشِر والتمويل، إلى جانب القوة الناعمة المتمثّلة في الخطاب الطائفي، والدعم الاجتماعي في بعض البيئات المحلية. أو ما فعلته تركيا التي عمدت إلى توسيع نفوذها عبر الجمع بين القوة الاقتصادية والديبلوماسية النشطة، مع الانخراط العسكري المحدود في عددٍ من البلدان العربية مثل سوريا وليبيا.

مثّلت التدخّلات الدولية، حسبما يرى فرج، بُعدًا حاسمًا في إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة، بعدما أدّى الانسحاب الأميركي التدريجي من العراق وأفغانستان، وتردّده في الانخراط العسكري المباشِر في سوريا، إلى خلق فراغٍ استراتيجي سعت روسيا إلى شغله، عبر تدخل عسكري مباشر في سوريا منذ عام 2015. فيما عزّزت الصين حضورها الاقتصادي في المنطقة، ضمن مبادرة "الحزام والطريق"، لتتحوّل المنطقة تدريجيًا إلى ساحة تنافسٍ مفتوحةٍ، بين عدد من القوى الكبرى والصاعدة، وتنتقل من نظامٍ شبه مستقرٍ، قائمٍ على أقطاب تقليدية وتحالفات واضحة، إلى نظامٍ أكثر سيولةً وانفتاحًا على تعدّدية القوى، مع ما أحدثه ذلك من تغيّرات في طبيعة التحالفات القائمة، التي لم تَعُدْ تعتمد بالضرورة على الروابط الإيديولوجية أو الدينية، وإنّما على المصالح المتغيّرة المرتبطة بمحدّدات الأمن والطاقة والاقتصاد. وهو ما لعب دورًا كبيرًا في ترسيخ الاستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، التي عملت، حسبما يرى الدكتور الشحات محمد خليل، أستاذ العلوم السياسية في كلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية في جامعة الاسكندرية، على تعزيز موقعها في المنطقة كقوة عظمى، بهدف حماية مصادر الطاقة، والحفاظ على نفط المنطقة، بوصفه شريان الحياة الاقتصادية في العالم، والبدء في منهج جديد لإدارة الصراعات في المنطقة من دون تدخل عسكري مباشر.

يتفق الكثير من الخبراء والمحلّلين، على الدور الكبير الذي لعبته فترة ثورات "الربيع العربي"، في خلق حالة الفراغ الاستراتيجي التي لا يزال يعاني منها العالم العربي حتّى اليوم. إذ لعبت تلك الثورات الدور الأبرز في خلق حالة السيولة التي طرأت على الكثير من الدول العربية، وما انتهت إليه من إضعافٍ لدور الدولة القومية. وهو ما أطلق يد "إسرائيل" في المنطقة تفعل بها ما تشاء، مستغلةً في ذلك تحوّل انتباه القوى العربية الكبرى عن قضية فلسطين، بخاصة مصر وسوريا، بعد انشغالهما لفترة طويلة بمشاكلهما الداخلية، وهو ما أطلق العنان لإسرائيل في الأراضي المحتلّة. في الوقت الذي انشغلت فيه دول الخليج العربي بمواجهة الهيمنة الإيرانية، وما أسفر عنه ذلك من تعزيزٍ لدور أكبر للولايات المتحدة في المنطقة، باعتبارها الضامن للدعم والحماية في مواجهة غياب المشروع العربي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن