لقد كان الحديث عن "اليوم التالي" لوقف إطلاق النار هاجسًا مؤرقًا لإسرائيل، وربما كان غياب تصوّر ناجع لهذا اليوم سببًا لإطالة أمد الحرب حتى مجيء ترامب، الذي قدّم لنتنياهو فيما يبدو تصوّرًا مغريًا دفعه إلى قبول الهدنة.
تسليم العرب بخيار السّلام أودى بالعقلين الأميركي والإسرائيلي إلى الغطرسة وعلينا زعزعة هذا اليقين المتغطرس
ولأنّ صفقة التهجير تبدو عصية وعبثية، فالأحرى أنّ ثمة صفقة بديلة تحقّق أهداف الصهيونية الدّينية، ولكن بقدر من المعقولية يَسْهُلُ معه تمرير بنودها التي لم تكن لتُقبل في الظروف العادية، وأنّ ثمّة قنبلة من الدخان كانت ضرورية لإثارة الفزع لدى العرب، تسهيلًا لقبولهم تلك الصفقة. وفي تصوّري أنّ ثلاثة بنود رئيسية ستكون حاضرة في تلك الصفقة البديلة:
البند الأوّل هو أن يتحمّل العرب الأغنياء، تكلفة إعادة إعمار غزّة من الألِف إلى اليَاء، على الرّغم من أنّهم ليسوا من خرَّبوها، فلا تتحمّل إسرائيل شيئًا على الرَّغم من أنّها الباغية، ولا الولايات المتحدة التي يرأسها تاجر أخطر من شيلوك تاجر البندقية، يستطيع جزّ اللحم من أجساد الآخرين ليس استيفاءً لديونهم، بل عبر تهديدهم وابتزازهم، حتى إنّه لم يتورّع عن المطالبة باستعادة ما أعطته بلاده من مساعدات عسكرية لأوكرانيا في حربها مع روسيا، على الرَّغم من أنّها من دفع الرئيس الأوكراني بين أنياب الدبّ الروسي. وربما رأى العرب في تحمّل ذلك العبء ثمنًا محتمَلًا بالقياس إلى الثّمن السياسي والأمني غير المحتمل لصفقة التهجير.
البند الثاني هو إنهاء دور "حماس" السياسي والعسكري في غزّة، بما يعنيه ذلك من استئصال شأفتها كتنظيم له قواعد وآليات تجنيد وعلاقة خاصة بالحاضنة الشعبيّة، وما يقتضيه من نزْع سلاحها، وربّما مطالبة قادتها من الصفَّيْن الأوّل والثاني بمغادرة القطاع إلى بلد مهْجَر، أي تهجير قادة الحركة بدلًا من أهل غزّة. وتلك مهمّة ليست فقط صعبة، بل عصيّة حتّى على إسرائيل، وأخشى أن يتعهَّد العرب بها، فينتقل التوتّر إلى الجانب العربي ونصبح أمام وضع يًشبه أوضاع منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت وتونس، وكلتاهما تجربة لا يرغب أي عربي في تكرارها.
أما البند الثالث والخطير فهو ضمّ الضفة الغربية، حلم إسرائيل الدائم، بمساحتها الأكبر وعمرانِها الأرقى، وتداخلها الجغرافي مع المعمور الإسرائيلي وخصوصًا عند المدينة المقدّسة. هذا الحلم الغالي على الخيال الاستيطاني يبدو لإسرائيل هدفًا قريب المنال، منذ أعلن ترامب تأييده لقرار الضمّ، ولم يعد سوى التنفيذ، ليصبح فلسطينيو الضفة مواطنين من الدرجة الثالثة وربما الرابعة داخل إسرائيل، وينتهي حلم الدولة المستقلة.
يتعيّن علينا سحب مبادرة السلام العربية مع رفع سقوف مطالبنا إلى مستوى قرار التقسيم 194 وحدود 1947
فإذا كان تفادي صفقة التهجير أمرًا سهلًا لجنونها، ورفض العالم لها واستعداد الفاعلين فيه لتأييد موقفنا، فإنّ تفادي الصفقة البديلة، في ظلّ سمعة "حماس" السيئة، يتطلب خوض معركة كبرى، يحتاج فيها العرب إلى التوحّد، وإلى الجسارة في توظيف كل أوراقهم المتاحة. وفضلًا عن ذلك، فإنّهم بحاجة أكبر إلى استخدام أدوات الحرب النفسية التي أجادت إسرائيل توظيفها ضدنا عبر العقود الماضية. أقصد هنا تحديدًا أنَّ تسليم العرب بخيار السّلام لأكثر من ثلث قرن، واستمرار طرحهم لمبادرة السلام الكامل مقابل التطبيع الكامل منذ العام 2002، قد أودى بالعقليْن الأميركي والإسرائيلي إلى نوع من الثقة المفرطة، بلغ حد اليقين النفسي في أننا لا نملك أي خيارات أخرى، ومن ثم إلى تلك الدرجة المشهودة من الغطرسة. وقد بات واجبًا علينا زعزعة هذا اليقين المتغطرس، وإشعارهما بالقلق على ما يبدو مضمونًا من اعترافات متكرّرة بحق إسرائيل في الوجود على حدود 4 يونيو/حزيران.
تحديدًا يتعيّن علينا سحب مبادرة السلام العربية، وإعادة التأكيد على الحل القانوني للصراع، مع رفع سقوف مطالبنا إلى مستوى قرار التقسيم 194 وحدود 1947، وليس هذا هزْلًا، بل آلية نفسيّة لإثارة الشكّ في بنية العقل الصهيوني، قنبلة دخان لا بدّ من إطلاقها في مواجهة التهجير القسري. كلاهما طرح لامعقول، ينسخ الآخر عند أي مفاوضات حقيقية، وهو المطلوب بالضبط، أن نصل إلى تفاوض حقيقي.
أمر آخر وهو مقاضاة ترامب أمام "المحكمة الجنائية الدولية" بتهمة التحريض على التهجير القسري، وهي إحدى جرائم الإبادة الجماعية التي يحاسِب عليها القانون الدولي. صحيح أنّه من المستحيل بلوغ الهدف النهائي لذلك المسار، ولكنه سيترك أثرًا نفسيًّا لدى رجل مثل ترامب، يشي له بأنّ ثمّة حدودًا للغطرسة. وهي مهمة يمكن للاتحاد العام للمحامين العرب، كهيئة اعتباريّة، النهوض بها تجنّبًا للحرج الديبلوماسي المتصوّر في حال قامت بها نُظُم عربية رسمية.
(خاص "عروبة 22")