تأخّرت حالة الإفاقة العربية لخمسين عامًا، سادت فيها إدراكات عربية وهميّة بشأن تراجع التهديد الوجودي للعرب من جانب إسرائيل، وذلك بتفاعلات متنوعة منها التّحالف مع الولايات المتحدة من جهة والتطبيع مع إسرائيل من جهة ثانية، فشهدنا تعامِيًا عربيًا على نحوٍ ما مع عدم تحديد تل أبيب حدود سياسية لما تراه دولة لها، والاستمرار في بناء قدرات إسرائيل الشاملة علي الصعيدين العِلمي والعسكري، وذلك في وقت تمّ الاعتراف أميركيًّا بسيادة إسرائيلية مطلقة على القدس واتجهت ديناميّات التفاعل على المستوى الدولي وربّما الإقليمي إلى محاولة تصفية القضية الفلسطينية بمشروعات "السّلام الإبراهيمي".
صحيح أنّ "طوفان الأقصى" قد أحدث قطعًا لتسلسل هذا البناء الإسرائيلي - الأميركي التراكمي، ولكنّ هذا الطوفان في الحساب النهائي يبدو أنّه قد عطّل المشروع الصهيوني في تحقيق أهدافه ولم يوقفه نهائيًا، لأسباب مرتبطة بحالة تيّار المقاومة العربية الذي اجتهد قدر ما استطاع، ولكنّه لم يمتلك حواضن عربية مناسِبة، ولم يمتلك حالة معرفيّة مواكبة لحجم القدرات الإسرائيلية التدميرية على المستويات الاستخبارية والعلمية والعسكرية.
ندعو لأن تكون ملامح التفاهم العربي قائمة على ترسيخ مفهوم حالة التهديد الوجودي الشامل للعرب ومقدّراتهم
الآن ماذا نحن فاعلون أمام هذه الهجمة التي هي ذات طابع وجودي ليس على أهل غزّة والفلسطينيين في الضفة الغربية فقط، ولكن أيضًا على مصر والأردن والمملكة العربية السعودية في قائمة نعلم جميعًا أنّها أوليّة وأنّ الجميع بما يملكونه من ثروات ومقدرات مستهدفون؟
في هذه المرحلة، نشهد الرّفض العربي الرسمي والشعبي للمخطّط الأميركي في حالة قوة وتماسك، فهو على المستوى الإجرائي يَرْتَكِنُ إلى خطّة فنّية تطرحها القاهرة بوجود إمكانية لإعمار في غزّة من دون تهجير أهلها كما يطرح الرّئيس الأميركي. أما المستوى الإستراتيجي فإنّه قيد التبلور وستكون معطياته سلبًا أو إيجابًا مطروحة في القمّة العربية المقرر عقدها مطلع الشهر المقبل في القاهرة.
وإذا كنّا لا نعلم من موقعنا هذا آفاق التفاهم الاستراتيجي بين العواصم العربية، وكذلك أَسْقُف الفعل العربي التي يتم بلورتها في هذه المرحلة، فإنّنا ندعو لأن تكون ملامح هذا التفاهم قائمة على ترسيخ مفهوم حالة التهديد الوجودي الشامل للعرب ومقدّراتهم، ذلك أنّه من الواضح أنّه لن يفلت أحد مع صعود تيّار اليمين الشعبويّ الأميركي – الإسرائيلي، التي عكستها منظومة الغطرسة الترامبية المدعومة بقواعد شعبية.
في هذا السّياق، نرى أنّ التحالف المصري - السعودي في هذه المرحلة مطلوب ليقود مفردات النظام العربي الذي تفكّك بانقسامه وعدم تنسيق المصالح البيْنية بين عناصره خلال العقدين الماضيين، وهو الأمر الذي أتاح ضغطًا من جانب القوى الإقليمية الخارجية عليه، وصعودًا لهذه القوى على حسابه، حيث كانت النتائج النهائية تضعضعًا لدول عربية وفوضى مسلّحة فيها.
التضامن العربي سوف يتيح تحالفًا مع الاتحاد الأوروبي ودول الـ"بريكس" بما يخلق قوة ضغط دولية ضدّ الاتجاهات الترامبية
ولعلّ مستويات التحالف والتنسيق العربي المطلوبة، لا بدّ أن ترقى لمستويات من التنسيق العسكري خصوصًا في البحر الأحمر، المؤثِّر بتموضعه الجيوسياسي على عصب المصالح الدولية التجارية، كما لا بدّ أن ترقى إلى إسنادٍ اقتصادي لخطة إعمار غزّة المصرية، فضلًا عن إسناد لاقتصادات كلّ من مصر والأردن.
أمّا على المستوى الدولي، فإنّ تضامنًا عربيًّا قد ينتج عن القمّة العربية المقبلة سوف يتيح تحالفًا مع كلّ من الاتحاد الأوروبي ودول الـ"بريكس" من موقع قوة عربية، بما يخلقه كل ذلك من بلورة قوة ضغط دولية ضدّ الاتجاهات الترامبية في تقديم الدّعم المطلق لإسرائيل بما لا يكتفي بقيادتها الإٍقليمية ولكنه يطرحها كفاعلٍ آمِرٍ لكل العرب، وهو ما أظنّ أننا نملك من مقوّمات القوة العربية لرفضه بالمطلق وترتيب مكانة جديدة للعرب، وقدرة للنظام العربي على حماية نفسه بعد أن غرق في بحر الأوهام لنصف قرن.
(خاص "عروبة 22")