يُرجع الكثير من الخبراء، تلك الأرقام الصادمة، إلى ما تشهده المنطقة خلال الفترة الأخيرة، من ارتفاعٍ مضطردٍ في درجات الحرارة، وما يؤدّي إليه هذا الارتفاع من تأثيراتٍ شديدة القسوة، في المساحات الزراعية في المنطقة العربية التي تشكّل الصحارى فيها ما يزيد على 80% من المساحة الكلّية، فضلًا عمّا تعانيه من شحٍّ واضحٍ في كميات مياه الأمطار، ما يضعها ضمن أكثر الأقاليم جفافًا في العالم.
هذا الواقع بات يتطلّب ضرورة العمل على تعديل الاستراتيجيات القائمة، التي تنتهجها العديد من بلدان العالم العربي، لمواجهة التقلّبات المناخية الحادّة، التي يُتوقّع لها أن تزداد حدّةً خلال السنوات المقبلة. وقد تمتدّ آثارها إلى الحالة الصحية العامّة، فضلًا عن تأثيراتها المتوقّعة في السكن والسلامة وأجواء العمل، بل إنّها قد تسوء وفق بعض السيناريوات، بعد ارتفاع مستوى سطح البحر في الدول المطلّة على حوض المتوسط، إلى الدرجة التي قد تضطرّ فيها بعض المجتمعات إلى النزوح إلى الداخل، ومواجهة فترات جفافٍ طويلة، قد تُعرّض الملايين لخطر المجاعة في المستقبل.
تتصدّر مصر قائمة الدول العربية الأكثر عرضةً للآثار السلبية للتغيّرات المناخية، إذ تتصدّر قائمة الدول الخمس الأكثر عرضةً لخطر ارتفاع سطح البحر، من بين 21 مدينة حول العالم، وتقول الدكتورة ندى عاشور عبد الظاھر، أستاذة فلسفة العلوم البيولوجية في كلية العلوم في جامعة المنيا، إنّ ارتفاع مستوى سطح البحر بمقدار نصف متر، كفيل وحده بأنْ تُفقدَ مدينة مثل الإسكندرية نحو 31.7 كيلومترًا مربعًا من مساحتها الكلّية، على ما قد يُفضي إليه ذلك من تهجيرٍ لنحو 1.5 مليون شخص، بالإضافة إلى فقدان نحو 195 ألف وظيفة. بينما تفقد مدينة بورسعيد نحو 21.8 كيلومترًا من أراضيها، حيث تعدّ من أعلى المحافظات الساحلية في معدّلات هبوط الأراضي، بنسبةٍ تبلغ نحو 5 مليمترات سنويًا، وهو ما يعني أنّ ارتفاع مستوى سطح البحر بالمقدار نفسِه الذي تتعرّض له الإسكندرية، سوف يؤدّي إلى خسارة مساحاتٍ كبيرةٍ من الأراضي المُتاخمة للشاطئ، على ما يعنيه ذلك من خسارةٍ لنحو 6.8 آلاف وظيفة، وهي المخاطِر التي تواجه مدنًا شاطئيةً أخرى على امتداد الساحل المصري، قد تُفضي خسائرها في حال ارتفع مستوى سطح البحر بمقدار مترٍ واحدٍ، إلى تهجير 3.5 ملايين لاجئ بيئي، من سكان تلك المناطق.
دفعت التغيّرات المناخية الحادّة العديد من الدول العربية، خلال السنوات الأخيرة، إلى وضع العديد من الخطط لمواجهة سيناريوات التغيير المفاجئة، خصوصًا في العديد من المدن المُشاطئة للمتوسط، وهو ما يتمّ اعتماده حاليًا في كلّ من مدينة تونس العاصمة، والدّار البيضاء في المغرب والإسكندرية في مصر. لكنّ جميع هذه الخطط تعتمدُ بصورةٍ كبيرةٍ، على دراساتٍ تحليليةٍ تفصيلية، لتوقّع حجم التغيّرات المناخية طويلة الأمد، من دون أن تلامسَ الآثار والمخاطر الطبيعية المرتبطة بالتغيّر المناخي، ومن ثمّ إدماج هذه الدراسات والسيناريوات في عملية التخطيط الحضري، والتأثير الكبير المتوقع في إمدادات المياه، وبخاصةٍ في المناطق الجافّة أو القريبة من خط الاستواء، إلى جانب أحواض الأنهار مثل حوض النيل في مصر والسودان، ودجلة والفرات في العراق، فضلًا عن الدول الأكثر تأثّرًا بالإجهاد المائي وعلى رأسها الأردن، بالإضافة إلى الدول الجُزُريّة الصغيرة، التي تذهب بعض التقديرات إلى احتماليّة أن تؤدّي التقلّبات المناخية العنيفة في وقتٍ ما، إلى اختفائها تمامًا عن خريطة العالم!.
يبدو سيناريو غرق الدلتا هو أكثر السيناريوات صعوبةً في ما قد تواجهه مصر خلال العقدَيْن المقبلَيْن، إذا ما واصل منسوب سطح البحر ارتفاعه، على ما قد يؤدّي إليه ذلك من هلاكٍ كبيرٍ للعديد من المحاصيل الأساسية، بسبب زيادة ما يُطلِقُ عليه الخبراء تملّح التربة، وهي ظاهرة لن تفلت منها حتى المناطق النّاجية، التي سوف تعاني هي الأخرى من تغيّرات حادّة في الخريطة الزراعية، وهو ما بدأت بشائره تلوح في الأفق القريب، حسبما يقول الدكتور بلال عبد الحميد، مساعد رئيس مركز معلومات تغيّر المناخ في وزارة الزراعة المصرية، على الرَّغم من أنّ تأثير التغيّرات المناخية في مصر لم يظهر بعد في شكل ظواهر جامحة، لكنّه أصبح يمسّ العديد من المحاصيل الزراعية بقوة.
ويقول عبد الحميد: "إذا نحّينا السياسات الاقتصادية الرسمية جانبًا، فإننا لن نملك سوى الاعتراف بأنّ تأثير التغيّرات المناخية في الأمن الغذائي لا يمكن إنكاره، ومن ذلك ما هو واقع بالفعل مثل تراجع إنتاجيّة عددٍ من المحاصيل، نتيجةً لتغيّر درجات الحرارة أو تملّح التربة. فضلًا عن زيادة معدّلات جفاف التربة الزراعية والتصحُّر، وهو ما يعني أنّ المنطقة العربية برمّتها ستكون أمام واقعٍ زراعيّ مختلفٍ عن ذي قبل خلال الفترة المقبلة، وهو واقع لن يكون سهلًا إذا لم يتمّ الاستعداد له، لأنّ التغيّر المتوقّع حدوثه في الخريطة الزراعية لن يأتيَ وحده، بل سيرافقه تغيّر كبير أيضًا في خريطة الأمراض، ربّما لن تكون جديدةً بالضرورة، لكنّها ستكون أكثر تعقيدًا، لأنّ المناخ الجديد سوف يأتي بأمراضه، سواء الزراعية أو الحيوانية أو البشرية أيضًا، وهو ما قد يُسفر بدوره عن اختلالٍ كبيرٍ في الموارد الغذائية، وسوف يلعب دورًا بالتأكيد في ارتفاع معدّلات الفقر، وما قد يُحدثه ذلك من تأثيراتٍ سلبيةٍ قد تأخذ شكل اضطراباتٍ اجتماعيةٍ ونزاعاتٍ، قد تُفضي إذا ما بلغ الاختلال ذروته، إلى حروبٍ جديدةٍ في الأقاليم التي سوف يزحف إليها الجفاف".
ينظر الكثير من الخبراء إلى قضية التغيّرات المناخية الحادّة التي تتعرّض لها المنطقة، باعتبارها قضية "حياة أو موت"، تتطلب تكاتفًا عربيًا واسعًا، من أجل التعاطي مع المتغيّرات الجديدة، إذ لا بديل، حسبما ترى الدكتورة هند فؤاد الأستاذة المساعدة لعلوم الاجتماع في المركز القومي للبحوث الاجتماعية، عن تعزيز التعاون الاقليمي في مجال نقل التّكنولوجيا، وتشجيع الاستثمار المباشر في المشروعات الخضراء، والسعي نحو تحقيق رؤيةٍ متكاملةٍ في معالجة الأضرار النّاجمة عن التغيّرات المناخية، مع التركيز على البُعد الاجتماعي خصوصًا للفئات الأكثر تضرّرًا، من خلال ابتكار برامج حمايةٍ اجتماعيةٍ، تتوافق مع الأضرار المختلفة التي سوف تلحق بالعديد من الفئات والمهن جرّاء الانفجار المناخي المقبل!.
(خاص "عروبة 22")