ما النقطة التي يقف فيها النظام الدولي في اللحظة الراهنة؟ هذا السؤال لا توجد له إجابات حاسمة بل تتفرع منه العديد من الأسئلة. على سبيل المثال: هل انتهى النظام الدولي القديم القائم على القطب الأوحد أي الولايات المتحدة، والذي تكرس بعد سقوط وتفكك الاتحاد السوفييتي؟ السؤال الثاني: هل صعدت الصين فعلاً لمشاركة أو مزاحمة أمريكا في قيادة النظام الدولي، أم أنها لا تزال تتقدم اقتصادياً، لكنها غير قادرة على منافسة أمريكا عسكرياً؟
السؤال الثالث: هل انتهت روسيا كقطب عالمي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وغرقها في "المستنقع الأوكراني"، أم أنها لا تزال تشكل رقماً صعباً في النظام العالمي؟ السؤال الرابع: ما دور الاتحاد الأوروبي، وهل هو قوة حقيقية مستقلة، أم ما يزال مجرد تابع للولايات المتحدة؟ السؤال الخامس: ما دور الهند وبقية الدول البازغة، في أي نظام دولي جديد؟
تلك هي أبرز الأسئلة، وسنسعى لمحاولة تقديم إجابات مبدئية لعلها تقدم لنا صورة مقربة من الواقع. منذ سنوات والعديد من الخبراء والمحللين يقولون إننا بصدد نظام دولي جديد يقوم على عالم ثنائي القطبية بين أمريكا والصين، أو عالم متعدد الأقطاب يشمل أيضاً روسيا والاتحاد الأوروبي والهند والبرازيل وبعض دول مجموعة العشرين.. لكن حتى هذه اللحظة فإن هذه الفرضية لم يتم اختبارها عملياً، فالولايات المتحدة ما زالت تتصرف باعتبارها القوة العظمى الوحيدة عالمياً.
الرئيس الأمريكي ترامب ومنذ عودته للبيت الأبيض للمرة الثانية، وهو يهدد ويتوعد الجميع عسكرياً واقتصادياً.. فهو وإضافة لقصف إيران، هدد بضم قناة بنما، وجزر غرينلاند.. واقتصادياً شن حرباً شاملة ضد كل دول العالم وفرض رسوماً جمركية، وأجبر حلف الناتو على زيادة مساهمة الأعضاء بنسب تصل إلى 5 % بحيث لا تتحمل الولايات المتحدة النسبة الأكبر من ميزانية الحلف، ولا ننسى أن ميزانية الدفاع الأمريكية تقترب من تريليون دولار وهو ما يمثل 39 % من الإنفاق الدفاعي في العالم البالغ نحو 2.4 تريليون دولار، كما تساهم بأكثر من 70% من إجمالي إنفاق حلف الناتو، وهو ما يعني أنها ستظل القوة العسكرية الأولى عالمياً لسنوات.
اقتصادياً ما تزال أمريكا أيضاً هي القوة الأولى عالمياً بناتج محلي إجمالي يبلغ نحو 27.7 تريليون دولار، في حين أن الصين في المركز الثاني بنحو 17.7 تريليون دولار. الصين ربما تواصل ملاحقة أمريكا اقتصادياً، لكنها بعيدة عنها تماماً عسكرياً، وما يشغل الصين أكثر الآن هو استمرار النمو الاقتصادي، وليس البحث عن المركز الأول ودليل ذلك، أنها لم تسترد تايوان حتى الآن كي لا تثير غضب واستفزاز أمريكا.
أما روسيا فهي غارقة فعلياً في المستنقع الأوكراني وأمريكا تستنزفها هناك، وفرضت عليها عقوبات غير مسبوقة، ورغم أن ترامب تواصل هاتفياً أكثر من مرة مع بوتين وفك عنه الحصار السياسي الذي فرضته إدارة جو بايدن، لكن ترامب انقلب مؤخراً على بوتين، وأمهله 50 يوماً فقط للوصول إلى وقف إطلاق النار في أوكرانيا، وإلا فرض عقوبات اقتصادية كبيرة، إضافة إلى أنه سمح ببيع صواريخ طويلة المدى لأوكرانيا، تدفع ثمنها الدول الأوروبية.
من أجل كل ما سبق يصعب القول إن روسيا يمكنها أن تزاحم أمريكا لتعود قطباً كما كان الاتحاد السوفييتي. وفي ما يتعلق بالاتحاد الأوروبي فقد ثبت أنه في مأزق كبير، وخصوصاً مع دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا في فبراير 2022، وعدم قدرة أوروبا على مواجهة روسيا عسكرياً من دون دعم الولايات المتحدة، بل إن بعض نظريات المؤامرة ترى أن واشنطن أغرت موسكو بالغرق في المستنقع الأوكراني حتى تضعف روسيا وأوروبا معاً، ليس فقط عسكرياً، ولكن بالضغط على أوروبا للتوقف عن استيراد النفط والغاز الرخيص من روسيا والاعتماد على أمريكا فقط.
أما الهند فهي لا شك قوة معتبرة، لكنها لم تنضم حتى لمجموعة السبع، وأمامها وقت طويل حتى تصير قوة عالمية، لكن أهميتها الكبرى تكمن في أي معسكر تنحاز: هل لأمريكا أم للصين، وحينما تقرر ذلك، فسوف يؤثر على موازين القوى..هي موجودة مع الصين في البريكس وموجودة مع أمريكا في ممر التجارة والتنمية، ويبدو أنها لم تحسم أمرها بصورة كاملة، ربما لتحسب الطرف الذي سيربح المعركة النهائية.
تقديرات بعض المحللين تشير إلى أن العالم يمر الآن بمرحلة سيولة شديدة قبل أن يستقر على وضعه الجديد. هناك تقدير يقول إن السيطرة الأمريكية على شؤون العالم ستستمر لبعض الوقت لأنه لا توجد أي دولة تشكل تهديداً جدياً للهيمنة الأمريكية. وتقدير آخر يقول إن السلوكيات والسياسات الترامبية المتقلبة هي أفضل دليل على أن الولايات المتحدة تشعر بقرب نهاية سيطرتها على العالم، وبالتالي فإن الصوت العالي والتهديدات المستمرة من ترامب ضد الجميع هي تأكيد لوجود ضعف بنيوي في القوة الأمريكية الآخذة في الأفول، حتى لو كانت الشواهد المرئية تشير إلى عكس ذلك.
كل ما يتمناه المرء ألا يكون العرب هم الذين سيدفعون ثمن الانتقال من نظام إلى آخر، مثلما حدث مع معظم التغيرات الدولية من نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى الآن.
(البيان الإماراتية)