مفارقات الاندماج الاقتصادي الإقليمي العربي وعوائقه (2/2)العروبة أو العولمة.. ذلك هو الخيار

توقّفنا في الجزء الأول من هذا المقال عند بعض المفارقات المرتبطة بواقع الاقتصاد العربي، وبالتحديد قصّة الاندماج الاقتصادي العربي، والتي أشرنا إلى أنّها تُصنَّف للأسف في خانة الأحلام المؤجّلة والمفارقات المركّبة، لعلّ أهم تلك المفارقات كما سلف الذكر، أن يسبق تاريخ تأسيس جامعة الدول العربية (سنة 1945) تاريخ إطلاق المجموعة الاقتصادية الأوروبية (1947)، والحال أنّ الاتحاد الأوروبي أطلَق عملته الموحّدة في 1998، بينما بقي الاتحاد العربي حُلمًا لم يتحقّق. ونستكمل في الجزء الثاني من هذا المقال، مفارقات أخرى لصيقة بالمشهد الاقتصادي العربي.

مفارقات الاندماج الاقتصادي الإقليمي العربي وعوائقه (2/2)
العروبة أو العولمة.. ذلك هو الخيار

إنّ استمرار الاتفاقيات الثنائية بين الدول العربية في شكل مناطق تبادل حرّ، هو دليلٌ على أنّ الاندماج الإقليمي ما زال في مرحلته الأولى حسب نظرية الاندماج الاقتصادي، وهنا يدخل عامل القيادة السياسية التي تدفع باتجاه استكمال باقي الخطوات للوصول بمشروع الاندماج إلى نهايته. كما أنّ غياب القيادة الاقتصادية الإقليمية يُشكّل عاملًا سلبيًا ومعطِّلًا للاندماج الاقتصادي العربي في شكل سوق عربية مشتركة على شاكلة الاتحاد الأوروبي الذي اعتمد على قيادة ألمانيا وفرنسا لبلدان الاتحاد الأوروبي.

لكن في الوطن العربي، نعاين عكس ذلك، ما دمنا نجد قيادات إقليمية متنافسة على جلب الاستثمارات الدولية من باب خدمة مصالحها الوطنية، والحال أنّ هذا التنافس بين القيادات العربية يُعيق التعاون لتحقيق المصالح العربية المشتركة.

مستفيدون وخاسرون من الاندماج الإقليمي

من العوائق أمام الاندماج الاقتصادي العربي، نجد على الخصوص حسابات الأطراف المشاركة، حيث هناك عدّة بلدان عربية غنية خليجية، مقابل عدّة بلدان عربية فقيرة ومتوسطة، لأنّه في حالة وجود اندماج إقليمي بين البلدان العربية ستتحمّل البلدان الغنية خسائر في التبادل التجاري، بينما البلدان العربية الفقيرة، سوف تستفيد من فرصٍ للتصدير ومن تنويع اقتصادها.

الاقتصاديات العربية تتنافس على فئات المنتجات نفسها أما الصناعة فتبقى صناعة تجميعية

النتيجة هي أنّ البلدان التي تُطالب بالاندماج الإقليمي هي البلدان التي لا يمكن أن تُشكّل قيادةً اقتصاديةً إقليميةً (بلدان عربية فقيرة) بينما البلدان التي يمكنها ممارسة قيادة اقتصادية إقليمية (بلدان خليجية) فليست لها أيّ مصلحة من الاندماج الاقتصادي مع بلدان فقيرة.

التشابه الإنتاجي يُعيق التكامل الاقتصادي الضروري للاندماج

إنّ العامل الأساسي الحاسم الذي يُعيق الاندماج الاقتصادي للمنطقة هو غياب التكامل الاقتصادي وحضور التشابه الاقتصادي، حيث إنّ بنيات الإنتاج والتصدير متشابهة وليست متنوّعة. فالاقتصاديات العربية تتنافس على فئات المنتجات نفسها (نفط ومشتقاته، ومنتجات نفط كيماوية، الفوسفات، منتجات زراعية) وهي منتجاتٌ موجّهةٌ للتصدير للسوق العالمية وليست موجّهة للسوق العربية، إضافة إلى أنّ اقتصاديات المنطقة تُصدّر القليل من المنتجات المُبَلورة والمتمايزة.

أما الصناعة التي تُشكّل من 5 بالمئة إلى 12 بالمئة من النّاتج المحلي، فتبقى صناعة تجميعية وغالبًا ما تكون متمركزةً في الصناعات الغذائية، ممّا يفسّر ضعف التبادلات البينية وقلّة فوائد الاندماج الإقليمي.

كما تُشكّل الاقتصاديات العربية الجزء الأكبر من اقتصاديات النفط والغاز في العالم، حيث إنّ ثلثي الاحتياطي النفطي و46 بالمئة من الاحتياطي الغازي في العالم موجود في المنطقة العربية تحديدًا، لكنّ المنتجات الطاقية من نفط وغاز عليها طلب في السوق الدولية وليس السوق العربية، وبالنتيجة لا تُشكّل بنيات التخصّص الإنتاجي أيّ حوافز مالية وغير مالية تدفع باتجاه الاندماج الاقتصادي.

الاندماج الإقليمي عن طريق دمج الشبكات القاعدية

في مواجهة ضعف الاندماج الاقتصادي عن طريق السوق، اقترح البنك الدولي مقاربةً مختلفةً للوصول إلى الاندماج الإقليمي للمنطقة، وهي مقاربة وظيفية تقوم على تشبيك البنى القاعدية للاقتصاديات العربية (طرق برية، بحرية، مائية، كهربائية وغازية)، قصْد الوصول إلى تطوير بُنى قاعدية مشتركة.

على صعيد آخر، التكامل بين البُنى القاعدية يُشكّل ميزة جذب للمنطقة، وهناك الكثير من عدم التكامل الوظيفي في المنطقة، فعلى سبيل المثال، وعبر كل الشريط الساحلي الذي يجمع بلدان المغرب العربي الخمسة (7130 كلم) ليس هناك إلّا ميناء واحد ذو مياه عميقة وذو تنافسية دولية (ميناء طنجة المتوسطي) ولكنّه لا يوفر خطوطًا بحريةً مباشِرةً مع موانئ أخرى في المنطقة وخطوط السِّكك الحديديّة غير مترابطة (المغرب الجزائر وتونس).

على الوطن العربي أن يختار إمّا الاندماج في عروبة اقتصادية جامعة أو الانغماس في عوْلمة جارفة

حاصل الكلام في قراءة هذه المفارقات، فقد تعدّدت العوائق المختلفة أمام الاندماج الإقليمي العربي من ارتفاع التكاليف المختلفة البيروقراطية أمام التبادل التجاري، وزيادة التنافس الإقليمي بين دول المنطقة والنزاعات العربية وعدم الاستقرار في بعض المناطق، وعدم تنوّع الاقتصاديات العربية وتشابهها الإنتاجي، ومصلحتها في التصدير للسوق الدولية أكثر من السوق العربية لتصدير منتجاتها النفطية والغازية أساسًا، وغيرها من العوامل الداخلية التي تتطلّب القيام بقرارات جريئة ومفصلية، كما تتطلّب التنازل عن جزءٍ من السيادة المحلية لصالح مفوضيّات عربية فوق قُطرية تدير اتحادًا عربيًا مثل المفوضية الأوروبية التي تدير الاتحاد الأوروبي.

على الوطن العربي أن يختار إمّا الاندماج في عروبة اقتصادية جامعة أو الانغماس في عوْلمة جارفة، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ لكل اختيار عدّة تكاليف أو تبِعات: تكلفة العوْلمة هي التضحية ببعضٍ من مقتضى العروبة، وتكلفة العروبة هي التضحية ببعضٍ من مقتضى العوْلمة. أن نكون اتحادًا عربيًا أو لا نكون، تلك هي المسألة.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن