صحافة

خيارات العرب وأوروبا في مواجهة سياسة ترامب

بلال التليدي

المشاركة
خيارات العرب وأوروبا في مواجهة سياسة ترامب

مع تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، أطلق دونالد ترامب تصريحات مجنونة حول تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر والأردن، وتحويل غزة إلى ريفييرا جديدة، وهدد المقاومة الفلسطينية بـ"الجحيم" إن لم تفرج عن كافة الأسرى السبت الماضي قبل الساعة الثانية عشرة زوالا، وترك العالم العربي يموج ويفكر في طريقة للجواب عن خطته.

قبل أيام، باشرت إدارة ترامب حوارا مباشرا مع روسيا بالرياض، وأطلق تصريحات مثيرة، أزعجت أوروبا وأوكرانيا على السواء، مشددا على أن أمريكا تريد استرداد 500 مليار دولار مقابل المساعدات العسكرية والمالية التي قدمتها لأوكرانيا، وأنها تحملت لوحدها هذا العبء في مقابل دور أوروبي محدود، وألقى بوابل من السب والشتم في حق رئيس أوكرانيا فلوديمير زيلينسكي، واصفا إياه مرة بالممثل الفاشل، ومرة أخرى بالديكتاتور، ومرة ثالثة ولو بشكل ضمني بالنصاب الذي استحوذ على الأموال الأمريكية، وأن أمريكا لن تظل تنفق على أوكرانيا في معركة خاسرة مع موسكو دون أن تسترد مبالغها، وأن على كييف أن تقدم معادنها النفيسة في مقابل ذلك.

لا تهمنا في الحقيقة هذه التصريحات، لكن ما يهم هو رد الفعل الأوروبي، وبشكل خاص فرنسا التي تداعت لعقد قمتين بباريس في أقل من أسبوع، لتعبئة الموقف الأوروبي، ناهيك عن حركية ألمانية كبيرة لمواجهة واقع استفراد واشنطن باتخاذ قرارات استراتيجية في قضايا تهم بالدرجة الأولى الأمن الأوروبي وبمعزل عن أوروبا نفسها.

يبدو المشهد كاريكاتوريا، فقد نجح دونالد ترامب بتصريحات رعناء أن يحدث حركية غير مسبوقة في الشرق الأوسط وأوروبا عنوانها الموحد تحصين منظومة الأمن القومي من التهديد الأمريكي، أو على الأقل من خطط واشنطن المجهولة، وتأثيراتها المحتملة على الأمن القومي لدول الشرق الأوسط ودول أوروبا.

ينبغي أن ننتبه إلى أن سياسة دونالد ترامب لها سابقة في التاريخ القريب، وأنها لم تكن تختلف كثيرا عن المفردات الأولى لسياساته الخارجية اليوم. وإذا كان الفارق أن ترامب وجد أمامه حربين: حرب الاحتلال الإسرائيلي على غزة، وحرب روسيا على أوكرانيا، فإن سياسة الأمس، كانت تقوم أساسا على الجلوس إلى طاولة الحوار مع كل من روسيا وكوريا الشمالية، وتحويل الاتحاد الأوروبي إلى مجرد تابع لواشنطن، ولو على حساب أمنه القومي، وطرح صفقة القرن في الشرق الأوسط والعالم العربي، ومحاولة تحقيق هدف اندماج "إسرائيل" في وسطها الإقليمي عبر توسيع التطبيع مع الدول العربية، وإفراد جبهة واحدة للتناقض الاستراتيجي، هي جبهة الصين.

كبراء السياسة الخارجية الأمريكية، وفي مقدمتهم وزير الخارجية الأسبق، الراحل هنري كيسنجر، كان دائما ينصح الإدارة الأمريكية بصعوبة خوض الصراع على أكثر من جبهة، ولطالما وجه هذا الانتقاد إلى إدارة جو بايدن التي تورطت بفتح ثلاث جبهات في آن واحد، مع روسيا في أوكرانيا، ومع إيران ومحاورها الإقليمية في الشرق الأوسط، ومع الصين في تايوان.

سياسة ترامب اليوم، أو على الأقل ما يبدو من ملامحها الأولية، لا تختلف في شيء عن سياسة الأمس، فقد قال بأنه يخطط لمواصلة علاقته مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، ولم يتأخر رد كوريا الشمالية التي قالت بأن ترسانتها النووية خط أحمر لا يمكن التفاوض بشأنها، حتى في حالة الحوار مع واشنطن، مما يعني أنها معنية كما السابق بهذا الحوار.

وبالنسبة للموضوع الروسي، فقد باشرت إدارة ترامب حوارا مع موسكو بالرياض من أجل إنهاء الحرب في أوكرانيا، وهي تمضي في ملف الشرق الأوسط في نفس الاتجاه، أي تحييد العوائق التي تحول دون استئناف صفقة القرن (وقف الحرب بقطاع غزة والضغط لاستمرار تنفيذ الاتفاق) والشروع في ممارسة الضغط على السعودية، والذي بدأ مبكرا مع الإعلان عن ضرورة أن تدفع 400 مليار دولار مقابل تأمين أمريكا لها، ومع المطالبة أيضا بضرورة خفض أسعار النفط في منظمة أوبك.

ثمة في الواقع، متغيران، الأول، أن إيران فقدت جزءا مهما من قوتها الإقليمية، وأن الرياض وطهران اتفقتا سنة 2023 على تطبيع العلاقات بينهما، مما يعني أن واشنطن فقدت جزءا كبيرا من أوراقها في المناورة مع السعودية. ولذلك، وبعد تحييد ورقة الابتزاز الأمريكي بالتهديد الإيراني، حاولت الرياض بشكل فوري إضعاف حجة ترامب، بالإعلان عن عزم السعودية الاستثمار بـ 600 مليار دولار في الولايات المتحدة، وهو تصريح يشبه إلى حد كبير تصريحا سابقا للملك سلمان بن عبد العزيز قدم بموجبه وعدا باستثمار 400 مليار دولار سنة 2018، فانصرمت ولاية ترامب دون تحققه.

والمتغير الثاني، هو سقوط نظام بشار الأسد بدور تركي واضح، وتنامي النفوذ الاستراتيجي لأنقرة، وصوله إلى حدود دولة الاحتلال الإسرائيلي، ولذلك يحاول ترامب أن يحيد الدور التركي باستعمال ورقتين: الورقة الكلاسيكية المسماة بقوات سوريا الديمقراطية (قسد) ثم ورقة التماطل في رفع العقوبات على سوريا.

في قضية غزة، يدرك دونالد ترامب أنه بدون دور عربي، لا يستطيع أن يرى خطة لـ"اليوم التالي" فيها، لاسيما وأن إسرائيل عجزت طوال 15 شهرا عن تحقيق أي هدف من أهدافها العسكرية بما في ذلك استرجاع أسراها، فبالأحرى أن تكون لها القدرة بوقف الحرب على فرض واقع غزة بدون حماس، ولذلك فهو يمارس ضغوطا مرة بالعصا (الجحيم) ومرة بالجزرة (المساعدات الأمريكية) من أجل إجبار مصر والأردن على أن تقوم قواتهما العسكرية بدور في تدبير قطاع غزة بعد الحرب، وإخراج حماس منه.

في موضوع أوكرانيا، من الواضح أن دونالد ترامب لا يريد قرار وقف الحرب لذاته، وإنما يريد تحقيق ثلاثة أهداف استراتيجية: تحييد جبهة الصراع مع روسيا، خاصة بعد ظهور مؤشرات عدة على ضعفها وتراجع نفوذها (استنزاف الحرب لها، سقوط حليفها في سوريا) ووضع اليد على ثروات أوكرانيا، وبشكل خاص المعادن النفيسة التي تستعمل في صناعة الرقائق الإلكترونية، ثم رهن الأمن الأوروبي بواشنطن.

أوروبا التقطت الرسالة، وهي اليوم ترقص كالمذبوح على الحبلين: حبل الدبلوماسية الداخلية لتقوية الذات الأوروبية في وجه التهديد الأمريكي، وحبل الدبلوماسية مع واشنطن، للتوصل إلى حل وسط. لكنها، لم تفتح خيارا ثالثا، بالحوار مع تركيا، التي كان لها دور رئيسي في الحوار بين روسيا وأوكرانيا، وتوسطت في حل أزمة الغذاء العالمي بفتح خط بحري لمرور سلاسل التوريد العالمية من الحبوب، وتملك بموقعها وسياستها خيارات كثيرة لتصليب الموقف الأوروبي في وجه الإضعاف الأمريكي له.

الرئيس الأوكراني، حاول من خلال زيارته لتركيا أن يلفت انتباه أوروبا إلى ورقة أنقرة، لكن يبدو أن أوروبا تعيد نفس أخطاء الماضي، إذ ستنتهي انتفاضة "الأسد الأوروبي" من الحديث عن زيادة ميزانية الدفاع، ومضاعفة الدعم العسكري لأوكرانيا، وتجنح بعد ذلك "لقعدة الدجاجة" بعد أن تتأكد أن واشنطن ماضية بكل قوتها في اتجاه إنهاء الحرب مع روسيا، مما يعني تعميق الخلاف داخل الناتو حول السياسة الدفاعية الأوروبية، ولذلك، تسعى أوروبا لممارسة نوع من الضغط على دونالد ترامب فقط لقبول وجودها كطرف إلى جانب كييف في مسار التفاوض، ومراعاة مطالبها الأمنية.

لدى العرب وأوروبا خياران متناقضان، فخيار العرب، هو اللعب على الوقت، والتعلل بحجة "حل الدولتين" للتحلل من الضغط الأمريكي، وإلجاء واشنطن في الأخير لخيار "عدم فعل شيء" مقابل الدور المشبوه المطلوب منهم في غزة. وخيار أوروبا، التوجه نحو تركيا، والرهان على استئناف الحوار بين روسيا أوكرانيا على قاعدة سلام، بشروط تخدم مصلحة أوكرانيا والأمن الأوروبي، أفضل من شروط ترامب.

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن