وجهات نظر

ترامب وأوروبا: تعبئة شعبوية وإثارة نخبوية

أثارت كلمة نائب رئيس الولايات المتحدة الأميركية جي دي فانس في اليوم الأول من اللقاء السنوي لمؤتمر ميونيخ للأمن ردة فعل غاضبة من قبل القادة الأوروبيين نظرًا لانتقاده الحادّ للنخبة السياسية الأوروبية وتدخّله الفجّ في الشأن الداخلي الأوروبي، إذ اعتبرتهما تلك النخبة خروجًا على قواعد الشراكة التاريخية الأميركية - الأوروبية - الأطلسية التي تبلورت عقب الحرب العالمية الثانية وظلّت وثيقة واستراتيجية على مدى ثمانين عامًا.

ترامب وأوروبا: تعبئة شعبوية وإثارة نخبوية

استهلّ فانس كلمته بتمنّي أن "تستطيع أوروبا الدفاع عن نفسِها" وأن تتمكّن من الوصول إلى "تسوية بين روسيا وأوكرانيا". وقد عُدّ هذا الاستهلال من قبل الكثير من المراقبين رسالة تؤشر إلى أنّ الإدارة الترامبية الجديدة تؤسِّس لعلاقة يتمايز فيها - بدرجة أو بأخرى - المسار الأميركي عن المسار الأوروبي. ويفسّر نائب الرئيس الأميركي، المحافظ السياسي والديني، بأنّ دافع هذا التمايز إنّما ينطلق من أمريْن هما: الأول: تخلّي أوروبا عن القيم التي تجمعها بالولايات المتحدة الأميركية ويقصد تحديدًا قيمتَي: الديموقراطية، وحرّية التعبير. الثاني: تعرّض أوروبا - بسبب تداعيات هذا التخلي - إلى الكثير من التهديدات الداخلية. وعليه، فلقد آن "لأوروبا أن تتحمّل مسؤولياتها الأمنيّة - وخصوصًا فيما يرتبط بالحيّز الأوروبي - وحدَها" ومن دون توريط الولايات المتحدة الأميركية.

نهاية مرحلة تاريخية في مسيرة الأمن الأطلسي - الغربي التي بدأت عقب الحرب العالمية الثانية

لعلّ الإشارة البالغة الدلالة التي وردت في استهلال فانس حول ضرورة التحرك الأوروبي من أجل تسوية الحرب الروسية - الأوكرانية تؤكد ما أشرنا إليه حول "تمايز المسارَيْن" الأميركي والأوروبي، إذ لم يكن حديث فانس حوله إلّا إعلانًا رسميًا عن التمايز الذي بدأت الولايات المتحدة الأميركية ممارسته بالفعل من خلال القفز على الموقف الأوروبي - الأطلسي الداعم لأوكرانيا في اتجاه التواصل المباشر بين دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإنهاء الحرب فيما اعتبرته أوروبا إعلان انتصار روسيا في هذه الحرب.

في ضوء ما سبق، أجمع المراقبون والمحلّلون على أنّ المحصلة النهائية لكلمة فانس والتحرّك "الترامبي"؛ نهاية مرحلة تاريخية في مسيرة الأمن الأطلسي - الغربي التي بدأت عقب الحرب العالمية الثانية قبل منتصف القرن الفائت لصالح مرحلة جديدة تتحلّل فيها الولايات المتحدة الأميركية من الدعم المطلق لأوروبا: سياسيًّا وماليّا. إذ سيكون على دول المنظومة الأوروبية، من الآن فصاعدًا، وضع رؤية أمنية جديدة لما يتعلق بالداخل القاري الأوروبي من جهة. ومن جهة أخرى، على هذه الدول أن تزيد من إنفاقها العسكري كي تلبّي الاحتياجات الأمنية للقارة الأوروبية.

ونشير هنا إلى أنّ ترامب قد دأب على دعوة الدول الأعضاء في "الناتو" إلى رفع الحد الأدنى لإنفاقها في "الناتو" إلى 5% من النّاتج المحلّي الإجمالي لها، وذلك لسدّ فجوة الإنفاق الدفاعي الأوروبي التي قدّرها الأميركيون بما يقارب 500 مليار يورو. وهو ما أكّد عليه أيضًا وزير الدفاع الأميركي الحالي في زيارته لمقر "الناتو" في بروكسل مؤخّرًا. وبالأخير، وعلى الخلفيّة السابقة، اعتبر المعنيّون بالشأن الأوروبي أنّ أوروبا باتت تواجه "تحدّيًا تاريخيًّا"؛ حول كلّ من: دورها، والشراكة الاستراتيجية التاريخية مع الولايات المتحدة الأميركية. ما دعا الكثيرين إلى طرح تساؤل مشروع لتفسير طبيعة ما يجري: هل هو خلاف في وجهات النظر حول قضية بعينها، أم هو بداية لقطيعة تاريخية بين الحليفيْن الأميركي والأوروبي؟...

ولا شكّ أن السؤال في حقيقته سوف يفتح المجال أمام سؤال آخر مصيري حول العناصر الفاعلة في النظام العالمي الجديد وديناميّته المستقبلية.

على صعيد آخر، وإضافة لِلْمَلْمَحِ الأوّل من خطّة التفكيك الجزئي للشراكة التاريخية بين الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا التي تمثّلت فيما وصفناه "تمايز المسارَيْن"، فإنّ هناك مَلْمَحًا ثانيًا يمكن رصده في هذا الإطار يتجلّى في التدخل في الشأن السياسي الداخلي الأوروبي والذي اعتبره بعض القادة الأوروبيين "تدخلًا سافرًا"؛ يعكس عدم فهم لديناميّة التفاعلات الحزبية الأوروبية المتعارف عليها منذ الحرب العالمية الثانية. فلقد انتقد فانس قادة الأحزاب الحاكمة في بعض دول أوروبا لمنعها الأحزاب القومية الشعبوية من الحضور السياسي، متّهمًا هؤلاء الحكام بأنّهم يشبهون قوى الطغيان السوفياتية، التي قمعت الحريات زمن الحرب الباردة. ومن ثم طالب بفتح المجال أمام هؤلاء الشعبويين، وتساءل لماذا تمنعوهم من حضور هكذا منتديات؟ وأنهى ملاحظته في هذا المقام، ساخرًا: "إذا أنتم خائفون من ناخبيكم، فلا يمكن لأميركا أن تفعل لكم شيئًا".

وحول هذه النقطة تحديدًا لا بد من تسجيل أنّ الغزل "الترامبي" للأحزاب الشعبوية الأوروبية لا يُعدّ جديدًا، بل هو فكرة أصيلة من ضمن أفكار الرجل الانقلابية. ونذكِّر هنا بما قام به ستيف بانون (72 عامًا)، العقل المدبّر لترامب أثناء الحملة الانتخابية الأولى، وكبير المستشارين في البيت الأبيض في الفترة من يناير/كانون الثاني إلى ابريل/نيسان 2017، إذ قام بخطوة أبعد من ذلك بكثير. فلقد أعلن قراره، مطلع أغسطس/آب 2017، بتأسيس مؤسّسة "حركة" في بروكسل ببلجيكا بهدف "تعبئة الفاشيين في أوروبا" لتشكيل ائتلاف سياسي، فيما بينهم، عابر للحدود. وذلك من خلال تنسيق ودعم عمل الأحزاب اليمينية الأوروبية المتشددة. على أن تكون أول مهمة على المؤسّسة إنجازها الفوز بأكبر مقاعد ممكنة في انتخابات البرلمان الأوروبي.

الإدارة الأميركية تعتبر التيارات الشعبوية قاعدة اجتماعية "للزّمن الترامبي"

وبعد، إنّ عملية التفكيك الجزئي التي تنفّذها الولايات المتحدة الأميركية حيال شريكتها التاريخية: أوروبا؛ تُعدّ "اجتراءً" تاريخيًّا أميركيًّا غير مسبوق عليها. يتمثّل هذا "الاجتراء" في أمرَيْن: الأول: إثارة النخبة السياسية الحاكمة الأوروبية من خلال نقد سياساتها. والثاني: التعبئة القاعديّة للتيارات الشعبوية التي تعتبرها الإدارة الأميركية، "الترامبية"، قاعدة اجتماعية "للزّمن الترامبي" (تعبير قمنا بسكّه مبكرًا من خلال دراسة حملت العنوان نفسه ونشرناها في مقالات خلال الفترة من 2017 إلى 2022). ولا شكّ عندي أنّ التمادي في هذا الاجتراء سوف يؤدي - يقينًا - إلى إحداث "شروخات" في بنية المنظومة الدولية التي تعاني – أصلًا - من حالة "استقطابية" - حسب التقرير السنوي لمؤتمر ميونيخ 2025 - شديدة الحدّة. ما يعني أنّ المستقبل مفتوح على كل الاحتمالات والسيناريوات.

وبالأخير، لا شك أنّ ما عبّر عنه "بكاءً" السفير كريستوف هيوسغِن، رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن، هو دالٌ للغاية، وذلك عندما قال في الكلمة الختامية لفعاليات المؤتمر يوم 16 فبراير/شباط الماضي، إنّ "قواعد النظام الدولي الراهن في خطر". خصوصًا إذا ما تعوّدت الولايات المتحدة الأميركية في "الزمن الترامبي" على أن تمنح نفسَها الحقّ في انتقاد النّخب السياسية والتدخل في شؤون الدول والقفز على النظام/القانون الدولي.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن