يترتّب عن هذه المقاربة نتيجتان أساسيتان: النتيجة الأولى أنّ هذه النظرة غالبًا ما تُفضي إلى خلاصة مفادها ألّا توافق ممكنًا بين طرفَي المعادلة، الدِّين والتِّكنولوجيا، إذا لم يكن من زاوية الطبيعة والطابع، فعلى الأقل من منظور الخلفيّة ومنطق الإحالة. أمّا النتيجة الثانية فتُحيل إلى موقف كلا الطرفين من الآخر. الدِّين سيرفض التِّكنولوجيا كونها دخيلة عليه، وهذه الأخيرة ستتنكّر للدِّين، وتتحدّاه بمقياس ما تقدّمه من مستجدّات عملية تفيد حياة الأفراد والجماعات.
يجب أن ننتبه هنا إلى أنّ إلصاق التقليدية بالدِّين لا يُضمر أيّ حمولة قدحيّة، قد تفيد الرّجعية أو التجاوز. كما أنّ إلصاق الحداثة بالتِّكنولوجيا لا تعني أنّها رديفها، بقدر ما تعني أنّها نتاج علاقة مستجدّة للإنسان معها.
الإسلام هو دين العقل بامتياز ولا تناقض بينه وبين العلم
الذين يقرّون بالتقابل بين التِّكنولوجيا والدِّين (والإسلام فيما يخصنا في هذه المقالة)، لا تعوزهم "الدّفوعات". ففي حين يقول هؤلاء إنّ الإسلام يُفرز حضارة الخضوع لله وللقرآن الكريم، فإنّ التِّكنولوجيا تُحيل إلى حضارة خضوع الإنسان للطبيعة ولتحوّلاتها. وفي حين يُركّز الإسلام على الأصول الأولى للرّسالة في صفائها ونقائها، فإنّ زمن التِّكنولوجيا يحيل إلى التقدّم والإبداع، وإلى الحياة العملية الجيّدة التي توفرها.
كما أنّه في حين يؤكّد هؤلاء أنّ التكنولوجيا تُركِّز على التطبيقات العملية وعلى التجارب الفعلية، يبقى الإسلام (يقصدون المسلمين) رهين علوم نظرية، لم تستطع إفراز نُخب تحوّل هذه المعارف إلى تطبيقات ومنتوجات يُفيد منها الإنسان في كيْنونته.
في المقابل، يرفض دعاة الأطروحة النّقيضة كلّ ما سبق، لا بل ويعتبرونه تحاملًا مجانيًّا على الإسلام وعلى المسلمين. حجّتهم في ذلك هو القول إنّ الإسلام إنّما هو دين العقل بامتياز، وألّا تناقض بينه وبين العلم والتِّكنولوجيا إطلاقًا، بدليل أنّ التاريخ يثبت أنّ العالم العربي/الإسلامي كان، ولعقودٍ طويلة، مهد العلوم والتقنيّات، وأنّ تراجعهم في ذلك إنّما مردّه إلى عوامل كثيرة، لعلّ أقواها على الإطلاق ظروف الاستهداف والاستعمار التي تعرّض لها.
ولذلك، فهؤلاء لا يعتبرون التِّكنولوجيا نتاجًا غربيًّا، بقدر ما يعتبرونها نتاجًا كوْنيًّا، أسهمت كلّ الحضارات (وضمنها الحضارة العربية/الإسلامية) في تراكماته ومنجزاته، لا بلّ إنّ العديد من الدول الإسلامية لا ترى حرجًا في استيراد التقنيّات، أو تكوين الخبرات العلمية والفنية كجزء من مشروعها التنموي العام. هذا في الوجه الأول للمعادلة.
أمّا الوجه الثاني، فينبني على ثلاثة توجّهات كبرى:
التوجّه الأول، توجّه راديكالي صرْف، ويؤكد على ضرورة الاحتكام لنص القرآن في التفكير والتطبيق، والتقيّد بأخلاقياته للجم تجاوزات التِّكنولوجيا أو للحدّ منها. هو توجّه لا يرفض التِّكنولوجيا عمومًا، لكنه يرفض الانبهار بمستجدّاتها أو الخضوع لتوجيهاتها، أو الاستسلام لتوجّهاتها. لكنه توجّه لا يمنح أيّ "استقلالية" للتِّكنولوجيا، إذ يجب أن يخضع وجودها "للوازع الدِّيني"، بدعوى ألّا عيْب في أن يكون سلوك الفرد تقليديًّا، وأن تكون ممارسته عصرية. لكنّ السلوك إيّاه كما الممارسة، يجب أن يكونا في خدمة الدِّين وتحت مظلّته.
الإسلام عمَد إلى حصر مجال الممنوع وترك الباقي خاضعًا للاجتهاد بما فيه نمط التعامل مع التِّكنولوجيا
ويفيد التوجّه الثاني أنّ التأويل الإسلامي (والاجتهاد تحديدًا) يجب أن لا يقف عند "حقيقة" أنّ الإسلام يدعو إلى النشاط التِّكنولوجي، ولكن أيضًا إلى أنّ هذا النشاط "لا يجد هويته إلا في خدمة الإسلام". مما يؤكّد ذلك، من وجهة النظر هاته، أنّ الإسلام عمَد قَصْدًا إلى حصر مجال الممنوع، وترك الباقي مباحًا، أي خاضعًا للاجتهاد، بما فيه نمط التعامل مع التِّكنولوجيا.
أمّا التوجّه الثالث فيرى أنّ تحقيق النهضة يجب أن لا يقتصر على التِّكنولوجيا، باعتبارها تقنيات تدخل في هذا المسلسل الإنتاجي أو ذاك، بل يجب أن يتبع ذلك تفعيلها لتُطاوِلَ البنى الرّمزية (وضمنها الدِّين) والتي تفعّل ذات التِّكنولوجيا فيها وتتفاعل معها.
التِّكنولوجيا هنا لا تتعايش مع هذه البنى فحسب، بقدر ما تعمل على تطويرها وإغنائها واستنباط ما يتماشى معها من أحكام وقيم.
ومهما يكن من أمر، فإنّ القصد ممّا سبَق، ليس إثبات أو نفي التوافق أو التنافي القائمين أو المفترضين بين الدِّين والتِّكنولوجيا. القصْد إنّما إعمال البحث عن وفي جوانب التفاعل التي تقوم بين طرفَي معادلة تبدوان متناقضتيْن، لكنهما تشتغلان معًا في بيئة واحدة وتتوجّهان لشريحة واحدة.
(خاص "عروبة 22")