بصمات

أين المجتمع المدني العربي من مقاومة مخطّط تهجير أهل غزّة؟

لئِن يستخفّ بعضهم بمخطّط التهجير الذي يستهدف الشعب الفلسطيني انطلاقًا من غزّة بالنّظر إلى تفاقم التصريحات "الشعبوية" للرئيس الأميركي دونالد ترامب، فإنّ ذلك الاستخفاف يعكس سوء تقدير لخطورة مخطّط التهجير الذي قد يُشكّل منعرجًا حاسمًا في مسار القضية الفلسطينية خاصّة والمنطقة العربية عامّة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ التخطيط للتهجير استراتيجيّة صهيونيّة ثابتة طيلة عقود. ولم تبرز صدفة أو بين عشيّة وضحاها.

أين المجتمع المدني العربي من مقاومة مخطّط تهجير أهل غزّة؟

لعلّه من المفارقات البارزة في هذا الموضوع وعلى خلاف المعتاد سارعت جلّ القوى الإقليمية العربية والدولية إلى إعلان رفضها القاطع لفكرة تهجير أهل غزّة مهما كانت الذرائع والمبرّرات، مع الوعد بتقديم خطّة عربية بديلة تحظى بمباركة الفاعلين البارزين في جامعة الدول العربية. بينما على النّقيض من ذلك خفتت ردود فعل المجتمع المدني العربي. وهي كلّها مؤشّرات لا تبعث على الاطمئنان لأسباب كثيرة سنكتفي بالإشارة إلى أهمّها في الآتي من التحليل.

تعرّضت قيادات تاريخية إلى التصفية الرمزية والجسدية ممّا أفرغ المجتمع المدني من نواته المحورية

إذا تبنّينا مفهوم المجتمع المدني الذي صاغه الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي (تـ1937) حينما عدّه "جملة المؤسّسات الفكرية والإيديولوجية التي يتمّ إنشاؤها وتغذيتها وتفريعها لتشكّل بنية فوقية تعمل على نشر الهيمنة الإيديولوجية" (الطاهر لبيب وآخرون، المجتمع المدني، دار محمد علي الحامي، صفاقس، 1991، ص 9)، فإنّنا نَعِي أهمّية الأدوار والرهانات المنتظرة من المجتمع المدني سواء على المستوى الداخلي أو على المستوى الخارجي في ما يخصّ التوعية بعدالة القضية الفلسطينية لتقاطُعِها مع مبادئ صيانة الكرامة الإنسانية، وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها. لذا فإنّ خُفوت صوت القوى المدنية يُشكّل مؤشّرًا سلبيًّا على طبيعة المضمون الأخلاقي والأدبي للدول العربية القائمة.

يمكن فهم المفارقة المشار إليها آنفًا بالنّظر إلى منزلة المجتمع المدني بالوطن العربي في صياغة السياسات العامة، ومدى تأثيره في أشدّ القضايا التصاقًا به مثل مسائل التعدّدية والديموقراطية والحرّيات الفردية والجماعية، إذ يمكن لأيّ ملاحِظ أن يستنتج بسهولة هامشية تأثيره واقترانه بطابع دعائي استعراضي. ويعود ذلك الضّعف إلى نوعية الفاعلين الاجتماعيين، وإلى سياقات بناء الدولة الوطنية منذ النّصف الثاني من القرن العشرين، إذ تعرّضت عديد القيادات التاريخية إلى التصفية الرمزية والجسدية ممّا أفرغ ذلك المجتمع المدني من نواته المحورية، وحصَر أدواره في المناشدة والمباركة والتأييد.

قطاع واسع من مكوّنات المجتمع المدني يتلقّى تمويلاته من جهات خارجية

لا يمكن في هذا السّياق التغاضي عن الجوانب المتّصلة بالتمويل الخارجي لفهم تعثّر أدوار المجتمع المدني العربي في ما يخصّ مقاومة مخطّط التهجير الحالي بما أنّ قطاعًا واسعًا من مكوّناته يتلقّى تمويلاته من جهات خارجية. فذلك يحدّ من استقلالية قراراته وخياراته لا سيما إذا اقترن بضغوطات دولية مثلما يحدث حاليًّا في البرلمان الأوروبي مع برلمانيين متعاطفين مع القضية الفلسطينية.

إنّ الحاجة اليوم ضروريّة إلى تجاوز عطالة المجتمع المدني العربي ليضطلع بأدواره الحيوية على مختلف الأصعدة. وليس مبالغةً القول إنّ قوّة الدول تظهر بمدى قوّة مجتمعها المدني. فعلى الصعيد التنظيمي يمكن للمجتمع المدني الإسهام في رصّ الصفوف وتنظيم الجهود وتوجيهها إلى خدمة القضية الفلسطينية بصفتها قضية استراتيجية لها تأثير في استقرار المجتمعات العربية، واستمرارية الدول العربية، وانصرافها إلى معالجة قضايا التنمية والفقر والأمّية والمديونية.

قد يكون دور المجتمع المدني بالوطن العربي أنجع من دور الدوائر الرسمية العربية في نصرة القضية الفلسطينية

أمّا على الصعيد الدّولي، يمكن لقوى المجتمع المدني العربية الاستفادة من قِيَمِ التعدّية التي ما زالت أصداؤها ممتدّة بالمجتمعات الغربية في التحسيس بالمنطلق الإنساني والكوني للقضية الفلسطينية بما أنّ مخطّط التهجير يتعارض كلّيًا مع حقوق الإنسان الأساسية ومقتضيات الكرامة الإنسانية. وهو ما يساعد على استقطاب ما تبقّى من أصحاب الضمائر الحيّة لإنصاف الفلسطينيين وإنقاذهم من جرائم الإبادة المنظّمة التي يتعرّضون لها في انتهاك فاضح لمختلف المواثيق والقوانين الدولية. وهي نقطة محورية يمكن التركيز عليها في ظلّ تزايد المؤشّرات حول استهتار الإدارة الأميركية الحالية بما تواضعت عليه المجموعة الدولية من احترام سيادة الشعوب، وتنظيم العلاقات الدولية ضمن منظومة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.

إذا استوفى المجتمع المدني بالوطن العربي شروط تطوّره قد يكون دوْره أنجع وأهمّ من دوْر الدوائر الرسمية العربية في نصرة القضية الفلسطينية بحكْم أنّ المجتمع المدني الحقيقي أقدَر على التحاور مع مختلف المؤسّسات والهياكل الغربية التي تقوم بأدوار خطيرة في التأثير في صياغة السياسات العامة لبلدانها داخليًّا وخارجيّا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن